لمحة عن القصور الامازيغية التاريخية جنوب تونس
ابتكر سكان الجنوب التونسي الامازيغ طابعاً معمارياً فريداً من نوعه في العالم ، و هي القصور الامازيغية التاريخية والمعروف بالقصور الصحراوية . وللوهلة الأولى يظن القارئ أنها قصور فخمة كتلك التي يسكنها الملوك والأمراء، غير أنها في الحقيقة كانت مخازن وقلاع تاريخية لعبت دوراً أساسياً في حياة الامازيغ بالمنطقة منذ قرون حتى النصف الأول من القرن العشرين. وقد كانت تؤدي وظائف أمنية واقتصادية واجتماعية في مجتمع "شبه زراعي رعوي" متنوع . هذه القصور تنتشر العشرات منها على امتداد المنطقة الامازيغية جنوب تونس وعددها يساوي عدد القبائل الامازيغية بالمنطقة .
الخصائص المعمارية للقصور الامازيعية جنوب تونس
يمتد القصر أفقياً على مساحة تراوح بين الهكتار والهكتارين، ويرتفع عمودياً من طابقين إلى أربعة طوابق. تختلف القصور من حيث الارتفاع والمساحة بحسب كبر القبلية وتعداد أفرادها ومقدار إنتاجها الزراعي. وتتميز القصور الأمازيغية بوجود "معصرة زيت الزيتون"، كما هو الحال في "قصر شنني" و"قصر قطوفة".
الداخل إلى القصر، تستقبله البوابة الكبيرة المصنوعة من خشب النخيل والمحصّنة بقفل حديدي ضخم يحرسه خفير مكلف من مجلس القبيلة. بعد تجاوز البوابة، نجد "السقيفة" وهي ممر طويل مسقوف بخشب النخيل ويسمّى في اللهجة المحلية "سنور". يقود الممر إلى فضاء واسع مفتوح، أرضيته مرصوفة بالحجارة الملساء ويسمى "الصحن" وهو الساحة المركزية للقصر، وعليها تطلّ كل الغرف والطوابق، وفيها كان مجلس أعيان القبيلة يعقد جلساته التي تناقش شؤون القبيلة. ويتحول "صحن" القصر أحياناً إلى محكمة لفض النزاعات القائمة بين أفراد القبيلة. أما الغرف فتُشيّد بعضها فوق بعض وبسقف على شكل قبة، وذلك لاعتبارات مناخية. فالغرفة معدة لتخزين المواد الغذائية ويجب أن تحافظ على درجة حرارة مناسبة لوظيفتها، ومن شأن القبة أن تعكس أشعة الشمس بعيداً عنها بخلاف السقف المسطح الذي يترك مجالاً لحرارة الشمس كي تستقر فوقه. ويتم الصعود إلى الغرف العالية عن طريق أدراج مشيدة بينها، أو بتسلق أخشاب النخيل المثبتة في حيطان القصر. ولا يقل عدد الغرف في القصر الامازيغي عن الـ30 غرفة، وقد يصل إلى 500 غرفة. أما المواد المستخدمة في البناء فكلها مستخرجة من البيئة المحلية، كالجبس والحجارة وخشب النخيل، وتعكس تناغماً كبيراً بين سكان المنطقة وبين بيئتهم.
قلاع ضد الغزو و النهب
نشأت القصور الامازيغية في سياق تاريخي يتسم بالصراع بين القبائل في المنطقة. بحسب المؤرخ التونسي، منصور بوليفة، يعود تاريخ بناء بعض القصور إلى 12 قرناً خلت. وقال لرصيف22: "ابتكرت القبائل الأمازيغية هذا الطابع المعماري وشيّدت قصورها على أعالي الجبال لحماية ممتلكاتها من الغزوات التي كانت تتعرض لها من القبائل البدوية العربية التي وصلت إلى المنطقة مع زحف قبائل بني هلال وبني سليم القادمة من المشرق العربي إلى شمال أفريقيا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي". ولفت إلى أن "وظيفة هذه القصور تحوّلت إلى تخزين الطعام. فكانت الغرف تقسم بين عائلات القبيلة حيث تودع داخلها محاصيلها السنوية من القمح والشعير والتمور وزيت الزيتون. وفي القرون المتأخرة، توجهت القبائل العربية في المنطقة إلى محاكاة النموذج الأمازيغي في التخزين، فأنشأت لها قصوراً، غير أنها اختارت السهول لتشيدها. وقد ساعدت القصور الامازيغية القبائل العربية على التخلي عن حياة البداوة والتنقل بحثاً عن مواطن الرعي وسهلت لها أسباب الاستقرار".
و شكل القصر ركناً مركزياً في إستراتيجية الأمن الغذائي لقبائل المنطقة في ما بعد، من العرب والأمازيغ. فالمناخ الصحراوي لم يكن يجود عليهم بكثير من الأمطار كل سنة. وكانت مواسم الخصب نادرة، والقبائل تستغلها لإنتاج أكثر ما يمكن من الحبوب والزيوت والتمور التي تستقر في غرف القصر العالية بعيداً عن الغزاة وحترازاً من مواسم القحط والجفاف. كان ذلك دأب الأهالي إلى حدود النصف الأول من القرن العشرين". ولاحقاً، أصبح القصر الامازيغي يفقد قيمته الاقتصادية والاجتماعية شيئاً فشيئاً، في مواجهة عجلة الزمن وبناء الحواضر والمدن وتغير عادات العيش والغذاء لدى سكان المنطقة. وترافق ذلك مع نجاح الدولة الحديثة في تفكيك البنية القبلية ولو بشكل نسبي.
منتج سياحي وثقافي
قادت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المنطقة الامازيغية إلى تحويل وظيفة القصر من مجرد مخزن غذائي إلى موقع أثري يساهم في تطوير القطاع السياحي. فبعد الاستقلال (1956)، توجهت الدولة التونسية إلى التركيز على القطاع السياحي كإحدى الرافعات التنموية للبلاد، وعممت سياسة استغلال الإمكانات المحلية، الأثرية والمناخية والطبيعية، لمختلف الجهات. في هذا السياق، تم استثمار القصور في السياحة الصحراوية، فرُمّمت العشرات من القصور الامازيغية لتوظيفها في جلب السياح واستُحدث مهرجان دولي يحتفي بها يقام خلال الربيع. بل إن بعضها قد تحول إلى استوديوهات تصوير لأفلام عالمية، لعل أشهرها الجزء الأول من فيلم حرب النجوم Star Wars للمخرج الأمريكي جورج لوكاس George Lucas الذي جرى تصويره سنة 1997 في قصر الحدادة، الذي بُني أواخر القرن التاسع عشر، شمال محافظة تطاوين. وقد حققت المنطقة من وراء ذلك شهرة واسعة جعلت منها قبلة لآلاف السياح كل عام، خاصةً بعد أن حولت السلطات المحلية مكان تصوير الفيلم إلى مزار، محافظةً عليه كما تركته الشركة المنتجة.
وفي المدة الأخيرة، تسعى مؤسسات ثقافية وسياحية رسمية ومدنية إلى محاولة إنقاذ هذا المنتج التراثي من خلال إلحاقه بالقائمة التمهيدية للتراث العالمي لليونسكو التابعة للامم المتحدة .