مدن أمازيغية تاريخية مندثرة ذكرها المؤرخون القدامى وتتجاهل كتب التاريخ الرسمية والمدرسية تناولها
لن يشمل حديثنا هذا المختصر جدا حول بعض المدن الامازيغية التي اختفت وخربت واندثرت، كالمدن الكبرى التي كانت عواصم سياسية واقتصادية خاصة خلال الوسيط الأمازيغي الأعلى كسجلماسة وتامدولت واغمات وغيرها التي لم يعد لها أثر….وإنما سنقتصر في الحديث، بذكر ولو بعجالة واقتضاب شديدين بعض من المدن الامازيغية التي اختفت واندرست ولم يعد لها ذكر ولا أثر ولا حتى عرف مواقعها لذى الباحثين المتخصصين.
ونروم من خلال هذه الإشارات تنبيه الباحثين والمهتمين بالنبش في تاريخ الحضارة الامازيغية وخاصة الشق المتعلق بالمدن والتجمعات السكانية التي اختفت اليوم، لا سيما ان جل هذه المدن سبقت الغزو المعقيلي والهلالي البدوي الذي حبس انفاس التطور التاريخي لشمال افريقيا وغير مساره بشكل قطعي إلى البداوة والتخلف والحروب.
وهو الانكسار التاريخي الذي غفل وتفادى الباحثين والمؤرخين الخوض في نتائجه وانعكساته على التراكم الحضاري والإنساني. ..كما ان هذه المدن سبقت كذلك عهد المرابطين الذين أسسوا أول نظام مخزني مركزي ساهم في قطع شرايين الحكم المحلي الديموقراطي واقحم الخصوصية المحلية في متاهات مذهبية وسياسية دينية لم ينته بعد لهيبها ولم تخمد نيرانها الى اليوم….ولا بد من تدشين عهد جديد من البحث ينبني أساسا على الحفريات وعلى قراءة ما تحت الارض بعد ان ضاع المكتوب….او اك تضييعه واتلافه.
على اي، سنركز هنا على بعض المدن التي كانت في مجال امازيغي مهم، حيوي واستراتيجي تعرض للأسف الشديد للنسيان والحيف في ميدان البحث التاريخي كما شكل إحدى المناطق التي تعرضت للقلبة الثقافية والاجتماعية إثر تعرضها للزحف البدوي….هذا المجال هو وطن احاحان او اقليم حاحا الذي اعتبره حسن الوزان اول أقاليم مملكة مراكش…ونقصد به نحن كل مجال الممتد جنوب واد تانسيفت بما فيه بلد ايركراكن ركراكة.
مدينة أكوز:
هي ذات ميناء شهير يقع على مصب تانسيفت يقول عنه البكري ̀” وساحل اغمات رباط قوز على البحر المحيط، وفيه تنزل السفن من جميع البلاد….” ثم يزيد في حديثه عن أغمات ” ثم من وادي السوس إلى مرسى امغدول وهو مرسى مشتى مامون. وهو ساحل بلاد سوس، ثم إلى مرسى قوز وهو رباط يعمره الصالحون وهو ساحل أغمات….” .
وهذا يبين أن اكوز كانت مرسى مهما لمدينة أغمات التي عرفت ازدهارا اقتصاديا كبيرا تحدث عنه المؤرخون والرحالة كالبكري الإدريسي وآخرون. ..واغمات هي العاصمة التجارية والاقتصادية قبل تأسيس مراكش وكانت ملتقى تجاري لمحاور القوافل الصحراوية وتربط سجلماسة بالبحر عبر ميناء أكوز…جميع الذين تحدثوا عن أغمات يذكرون هذا المرفأ لما له من أهمية وحيوية تجارية…اما التادلي المعروف بابن الزيات صاحب كتاب التشوف فقد اعتبر اكوز عاصمة ركراكة وقاعدتهم وأشار إلى أنها كانت مقر العامل ويجبى بها الخراج وكان بها سجن ومسجد، وذلك حين يتحدث عن الوالي الصالح أبو إبراهيم إسماعيل ابن وجماتن الركراكي.
ونستفيد من هذه الإشارات المصدرية ان أكوز كانت تتمتع بكل شروط التمدن والأنشطة الموازية للمدينة في ذلك العصر الذي سبق تأسيس مراكش سنة 1070 م. كما يستفاد من ذلك أن اكوز كان مرفأ تجاريا لأغمات وهذا يعني أنه كان بوابة ما يسمى بالتجارة الدولية….وقد ذكر الإدريسي في نزهته ان الملاحة بدأت تنشط جنوب آسفي ” ومرسى آسفي كان فيما سلف آخر مرسى تصل إليه المراكب. وأما الآن فهي تجوزه بأكثر من أربعة بحار”.
لكن لم تظهر إشارات لمدينة أكوز فيما بعد خاصة بعد ازدهار مراكش وتراجع أغمات. ..ولم يعد يذكر مرفأ أكوز ولا رباطه واختفى إلى حد ان حسن الوزان خلال القرن 16، ذكره عرضا حين تحدث عن مدينة تاكوليت التي اختفت هي الأخرى ويجهل مكانها …ولكن بالمقابل ذكر ميناء تافضنا الذي لا تزال اطلاله وموقعه معروفا بهذا الاسم إلى يومنا هذا…ونفس الشيء عند مارمول كاربخال الذي أشار الى أكوز واعتبره قصرا عتيقا حيث يوجد مصب النهر.. .تقلص حجم مرسى أكوز ولم يعد يشهد تجارة ولا مراكب حتى اختفى إلى حد علمي مكانه حاليا…
مدينة أمكدول :
هو الآخر مرسى على المحيط بساحل حاحا كما ذكره البكري في الإشارة اعلاه، وابن سعيد في كتاب الجغرافيا” ومن هذا النهر إلى مصب نهر امكدول أربعون ميلا وهو أيضا في بلاد حاحا….وهناك جزيرة صغيرة بينها وبين النهر ميل….” وهذا ما يجعل بعض الباحثين يعتبرون ان امكدول هي التي حلت الصويرة الحالية محلها ومن إسمها اقتبس الإسم الذي عرفت به في أوروبا ” موكادور”…وهذا حسب نظري المتواضع جدا يحتاج إلى تدقيق. ..
مدينة تادنست:
اول مدينة يذكرها الوزان صاحب وصف افريقيا في رحلته إلى وطن حاحا ويقول ” تدنست مدينة قديمة بناها الأفارقة في سهل على جانب كبير من الرونق والجمال، يحيط بها من كل جانب سور من الاجر والطين …يوجد بها 500 كانون فأكثر ..” وترك لنا الوزان وصفا دقيقا عن هذه المدينة وجمالها وحالة التجارة والحرف التي كانت تعرفها في ذلك الوقت كما يوجد فيها جامع كبير مبني بالحجر والجير في غاية الحسن وهو عتيق شيد في الوقت التي كانت البلاد خاضعة لسلطة ملوك مراكش حسب الوزان دائما. كما يوجد في المدينة حوالي 100 مسكن اليهود ويملكون دار السكة ويضربون لسكان المدينة نقود الفضة….ويضيف الوزان “ولا وجود في هذه المدينة لضريبة الأسواق ولا لضريبة الجمرك ولا لأية جباية اخرى، واذا اتفق ان اضطرت المدينة الى بعض الاداءات اجتمع اعيانها واقتسموا المصاريف بحسب مايستطيعه كل واحد منهم.
اما مارمول فذكر تقريبا نفس معطيات الوزان وقال ان المدينة يزيد عدد سكانها عن ثلاثة آلاف نسمة….وخربت المدينة وفر سكانها بعد سنة 1514 بعد صراع وحرب بين السعديين والبرتغال بزعامة يحي اوتعفوفت ..وقد عاين الوزان اطلال هذا الخراب…حيث قال ” وقد خربت تندنست عام 918 للهجرة وفر سكانها بعضهم إلى الجبال وبعضهم إلى مراكش …وقد شاهد كاتب هذه السطور مدينة تدنست بعد خرابها وقد تهدم السور كله وكذلك المنازل ولم يعد يسكنها غير البوم والغربان”.
توجد مدن كثيرة في بلاد ايحاحان كـ تاكوليت واكوبيل واديكيس بناها المصامدة الامازيغ في العصر الوسيط الأعلى وكلها سبقت مدينة الصويرة/تاصورت بقرون وان اخذت الصويرة وظائفها التجارية والملاحة إلا ان التحول المعاق الذي طرأ بفعل الغزو البرتغالي والمعقيلي الهلالي البدوي وبناء عاصمة مخزنية كبرى على مقربة من بلاد حاحا وهي مراكش …سارعت كل هذه الظروف والعوامل إلى اندثار هذه المدن وقطع اوصالها بالاستحواذ على التجارة وانتشار الحروب والغزوات وهو الأمر الذي أدى حتما إلى قتل المبادرة الداخلية التي كانت اساس التطور الطبيعي للمجتمع…وعاينتم كيف كان المصامدة يعيشون داخل مدينة تدنيست بدون ضرائب ولا اتاوات.
بقلم: عبد الله بوشطارت.