في ضرورة حراك وطني من أجل إنقاذ الأمازيغية .. بقلم ميمون أمسبريذ
بقلم ميمون أمسبريذ
جاء في قصاصة لجريدة "هسبريس" الإلكترونية ما يلي: "خلال العرض الذي قدمه أمام أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في دورته الثانية عشر، بحر هذا الأسبوع، حول برنامج عمل وزارته متعدد السنوات، لم يشر محمد حصاد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي الى الأمازيغية، بينما تحدث عن تطوير تدريس اللغة العربية واللغة الفرنسية في التعليم الابتدائي ... [وقد] طُرحَ على وزير التربية الوطنية سؤال بهذا الشأن [فَ]كان جوابه إن الأمازيغية 'ستظل على حالها الذي هي عليه الآن، ولن تعرف تغييرا خلال برنامج العمل متعدد السنوات الذي أعدته وزارته' بحسب مصدر حضر الجلسة". انتهت القصاصة.
استطراد لا بد منه
غريب أمر القيّمين على شؤون هذا البلد: يهيئون عن قصد وسبق إصرار كل ظروف الانفجارات اللاحقة، حتى إذا وقع ما خططوا له وهيئوا شروط حدوثه وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ وجعلوا يضربون أخماسا بأسداس، كيف يطفئون نيران الانفجار التي تأخذ بتلابيبهم؟!
يقابلون مطالب المواطنين بالاستخفاف والاستهتار ما دام هؤلاء يعبرون عنها"بالتي هي أحسن"، حتى إذا يئسوا من أن يجدوا آذانا صاغية لدى من يهمهم الأمر فانتقلوا بأسلوب المطالبة من "التي هي أحسن" الى "التي هي أنجع"، وبرزوا الى الشارع لا يغادرونه إلاّ الى السجون – آنئذ فقط يتداعى "المسؤولون" مشدوهين الى إطفاء الحريق الذي أضرموه بأيديهم بعد أن يكون قد أتى على المحصول كله أو جله.
ستون سنة – هي عمر استقلال المغرب – والمواطنون المغلوبون على أمرهم يشكون الفساد المستشري في دواليب الدولة، حيث الموظف العمومي بجميع أسلاكه ودرجاته يصول ويجول ارتشاءً وتسلّطاً واعتباطاً ومزاجيةً – كل ذلك والمواطن يكتم غيضه، وإذا جَرُؤَ وتمتم شيئا بينه وبين نفسه أُلصِقت به التهمة الجاهزة المتمثلة في "إهانة موظف"؛ حتى لاذ المواطنون بالصمت ما خلا انتفاضات بين الحين والحين تسارع الدولة الى إخمادها بالحديد والنار مرّةً، وبالسجن والاعتقال أخرى...
ستون سنة من الفساد والاستبداد – إلى أن كان ما لم يكن منه بُدّ: يوم تجسد الفساد والاستبداد والتسلط والاعتباط والمزاجية والصلف مواطنا مطحونا في حاوية نفايات...
إنه لَمَشهد أوّلِيٌّ (une scène originelle ) أخرج المواطنين من حال "البراءة" الى حال المعرفة متمثلةً في الحراك المواطِن. هذا الحراك الذي أقفل عامه التاسع ولا يزال حيا رغم التنكيل والبطش والاعتقال والمحاكمات الماراطونية: حراك لم تخرج زعاماته من تيار إيديولوجي أو حركة سياسية، بل انبثقت من هول الفاجعة. لذلك كان في هذه الزعامات – نسائها ورجالها – شيء يتجاوزها: شيء أكبر منها، شيء لا صِلة له بمساراتها السيرذاتية من مستوى تعليمي أو تكوين أو غير ذلك من المعايير المعتمَدَة: إنها زعامات فردية وجماعية مأساوية، بمعنى أنها تَوَلّدت من المأساة – لا من أي مدرسة سياسية أو إيديولوجية.
عود على بدء
قد يقول القارئ: وما علاقة كل ما تقدم بما سطرته في عنوان المقال؟ ألجواب أني لم أبتعد عنه إلا لأقترب منه! (وهل ابتعدت عنه أصلا؟ وأليس المطلب الأمازيغي مطلبا مواطنيا أيضا؟!). لذلك سأطلب من القارئ أن يسحب/يطبق ما جاء في الفقرات السابقة على المطلب الأمازيغي لكي يتبن العلاقة. على أن بين الموضوعين، مع ذلك، اختلافا في النوع والدرجة معا. فإذا كان الحراك المواطِن الذي نشهده منذ ما يقترب من العام – ورغم هول الحدث الذي فجّره – حراكا "سياسيا" في نهاية المطاف (بأنبل ما للفظ 'السياسة' من معنى، وبعيدا عن كل سياسوية) – فإن قضية الأمازيغية قضية وجودية: قضية بقاء المجموعة الأمازيغية أو زوالها.
وإذا كان رد فعل الضمير الجمعي على فاجعة طحن المواطن محسن فكري – في أبشع تجلّ للفساد والاستبداد – قد اتخذ شكل الحراك المواطِن الذي سارت بذكره الركبان ولا تزال أطواره قيدَ الروزنامات كلها، فلَكُم أن تتصوروا ماذا سيكون رد فعل الضمير الجمعي الأمازيغي على إعدام هوية مجموعة بشرية عمَرت هذه الأرض آلاف السنين – هوية عنوانها الأبرز هو اللغة الأمازيغية.
لا شك أن الدولة تبني سياستها الأمازيغية (كي لا أقول: البربرية) على ما يصلها من بيانات عن مدى اتساع قاعدة المطلب الأمازيغي وقوة الحركة الأمازيغية وانتشار الوعي الهويتي الأمازيغي، الخ. وبناء على هذه المعطيات الكمية تقرر أن المطلب الأمازيغي ليس من القوة والانتشار بالقدر الذي يجعله جديرا بالاعتبار في السياسات العمومية. هذا إذا افترضنا طبعا أنْ ليس وراء موقف الدولة من الأمازيغية عامل إيديولوجي مستقل عن أي معطى إحصائي. لكنْ لِنستبعدْ هذا العامل مؤقتا ولْنتفقْ على أن الدولة تبني سياستها الأمازيغية على بيانات كمية محضة، ولنتساءلْ: أليست البيانات العددية والكمية هي التي جعلت الدولة لا تقوم بأي شيء لوضع حد لِآفة الفساد التي يكتوي بها المواطنون المغلوبون على أمرهم على مر العقود، مطمئِنةً الى معطياتها الكمية عن ضعف منسوب الوعي المواطني لدى المغاربة؟ وقد غاب عنها أن العبرة – في هذا المجال كما في غيره – في الكيف لا في الكم: ذلك بِأن الوعي صيرورة تتغذي بالوقائع؛ فَرُبَّ واقعة تَقْدَحُ زِناد وعي كامن فإذا هو مُتَحَيِّن ! وقد رأينا كيف انبثق الوعي المواطن في أبهى صوره متجسدا في الحراك المواطِن الذي أطلقت شرارته واقعة طحن المواطن محسن فكري في مدينة صغيرة لا تُذكر إلاّ مقرونة بالسكون والجمال...
إنّ من الأحداث ما يصوغ وعي الشعوب في لحظات حاسمة من حياتها، لما لتلك الأحداث من وقْع على ضميرها الجمعي – بمستوييه : الواعي وغير الواعي. فها نحن أولاء نشهد كيف أدى حدث طحن مواطن فرد في حاوية نفايات إلى انتقال وعي المواطنة من القوة الى الفعل، ومن الكمون الى الظهور في حراك مواطِن قلَب الأدوار، فإذا بخائفي الأمس يخيفون من كانوا يخيفونهم! يقع هذا وجريمة الطحن تتعلق بفرد، فما بالكم بجريمة طحن هوية شعب؟ من يستطيع أن يتنبأ بحجم الحراك الهويتي وآثاره حين يأتي أوانه؟
مرة أخرى: لا تقامروا بمستقبل البلاد؛ فليس اليوم كالأمس ولا الغد كاليوم.
إن قتل اللغة الأمازيغية قتل للهوية الأمازيغية؛ وقتل الهوية الأمازيغية طحن رمزي* للإنسان الأمازيغي ومَظَنّةٌ لحراك آخر بأبعاد أخرى.