النهوض بالأمازيغية يتوقف على إرادة الدولة وليس على إرادة الأمازيغيين
بقلم: محمد بودهان
مع توسع الحركة الأمازيغية وتزايد المطالب الأمازيغية وتنامي الوعي بالهوية الأمازيغية وانتشار الكتابة والتأليف بالأمازيغية، أصبح الكثير من النشطاء الأمازيغيين يمارسون نوعا من "الديكتاتورية" على غيرهم من الأمازيغيين عندما يطالبونهم بالتواصل فيما بينهم كتابة بالأمازيغية بدل العربية أو الفرنسية، وبذل مجهود لقراءة الإنتاجات المنشورة بالأمازيغية، والعمل على استعمال الأمازيغية داخل الإدارات العمومية في التخاطب مع موظفيها والعاملين بها...
يجب الإقرار أولا أن مثل هذه المواقف الأمازيغية "المتشددة" لا يمكن إلا أن تصدر عن مناضلين صادقين في نضالهم، غيورين على الأمازيغية التي يخافون من موتها لعدم استعمالها وتداولها لغة وثقافة. وهي مواقف تخدم طبعا هذه الأمازيغية لأنها توفر لها شروط البقاء والاستمرار والنمو عن طريق التداول والاستعمال. وهذا ما ينبغي أن يتصف به ويدعو إليه كل محب للأمازيغية يرغب في حمايتها وتنميتها والحفاظ عليها.
هؤلاء المناضلون ـ الصادقون كما قلت ـ يحمّلون قسطا أكبر من المسؤولية، في ما تعرفه الأمازيغية من تهميش وإقصاء وتراجع، إلى الأمازيغيين أنفسهم الذين لا يكتبون بها ولا يقرأون القليل مما كتب بها، حتى يفرضوا انتشارها واستعمالها الكتابيين ليرتقوا بها من المستوى الشفوي اللهجي إلى المستوى الكتابي الذي يمنحها المكانة المحترمة التي تستحقها.
كل هذا صحيح، وصحيح جدا: فقلة من الأمازيغيين هم الذين يكتبون بالأمازيغية ليتواصلوا فيما بينهم، وقليل من هذه القلة يقرأون ما ينشر بالأمازيغية. ومن السهل إذن إلقاء اللوم على الأمازيغيين و"اتهامهم" بغياب الغيرة لديهم على أمازيغيتهم التي يتفرجون على موتها البطيء دون أن يفعلوا شيئا لإنقاذها.
هذه المواقف الصادقة والنبيلة والوطنية ـ بلا شك ـ رغم دورها التحفيزي والتوعوي، إلا أن عيبها الكبير أنها مواقف "إرادوية" تنطلق من الاعتقاد الخاطئ أنه يكفي أن تتوفر "الإرادة" لدى الأمازيغيين لرد الاعتبار لأمازيغيتهم حتى تخرج من دائرة الإقصاء وتصبح بألف خير وعلى أحسن ما يرام. إن هذه المواقف ـ وهذا هو خطؤها ـ تنظر إلى الأمازيغيين كما لو كانوا وحدهم في الساحة ويملكون سلطة الفعل والقرار، وبالتالي يمكنهم أن ينهضوا بأمازيغيتهم إذا "أرادوا" ذلك. هذه المواقف تتجاهل إذن وجود "إرادة" أقوى من إرادة الأمازيغيين. إنها "إرادة" الدولة صاحبة الحكم والسلطة. إنها "إرادة" أقوى من الجميع لأنها تتوفر على وسائل الأمر والنهي، الزجر والمكافأة، المنع والإجازة، الإكراه والقمع...
هذه "الإرادة" الدولتية الأقوى، هي اليوم "إرادة" عروبية وغير أمازيغية، بل أمازيغوفوبية لا تكنّ ودا للأمازيغية. وهذا ما يفسر أن "إرادة" الأمازيغيين للنهوض بأمازيغيتهم تبدو كما لو كانت غائبة أو منعدمة، لأنها لا حول لها ولا قوة أمام "إرادة" الدولة العروبية التي لها الكلمة الأخيرة في مسائل اللغة والثقافة والتعليم والإعلام، أي في كل ما يمكن أن يخدم ويحيي وينعش الأمازيغية، أو يعيق ويميت تطورها وتنميتها، حسب ما تقرره تلك "الإرادة". وبما أن الدولة العروبية بالمغرب "تريد" فرض العربية والفرنسية وإقصاء الأمازيغية، فإن ذلك ينعكس على سلوك الأمازيغيين تجاه أمازيغيتهم.
لنشرح ونوضح هذه المسألة:
لماذا لا يكتب الأمازيغيون بالأمازيغية؟ لماذا لا يقرأون ما يكتب بالأمازيغية؟
يجيب أصحاب الموقف "الإرادوي"، الذي عرضنا له أعلاه، لأنهم لا "يريدون" ذلك، لأن "الإرادة" تنقصهم.
وهذا غير صحيح. لماذا؟
لأن اللغة، أية لغة، إذا كان تعلم استعمالها الشفوي ممكنا وسهلا دون الحاجة إلى مدرسة ولا معلم، فإن تعلم كتابتها وقراءتها غير ممكن، وصعب بدون مدرسة ولا معلم (لا يهم أن تكون المدرسة تقليدية ككتاب قرآني والمعلم على شكل "فقيه") مهما كانت "إرادة" التعلم قوية لدى الشخص المعني. واليوم، نعرف أن مسألة التعليم أمر تختص به الدولة. وبما أن هذه الدولة لم "ترد" تدريس الأمازيغية وتعميم تعليمها، فإن الأمازيغيين لا يعرفون كتابة وقراءة أمازيغيتهم لأنهم لم يتعلموا ذلك في المدرسة مثلما تعلموا كتابة وقراءة العربية والفرنسية.
النتيجة أنه حتى عندما تتوفر "إرادة" أقوى لدى الأمازيغيين لكتابة أمازيغيتهم وقراءتها، فإن ذلك لا يفيد كثيرا أمام "إرادة" الدولة التي تقرر العكس، أي تريد إقصاء الأمازيغية. لماذا لا يكون ذلك مفيدا ولا مجديا للأمازيغية؟
ـ لأنه حتى عندما يكتب الأمازيغيون أمازيغيتهم، فإن غالبيتهم يكتبونها بطريقة تنفّر من قراءتها لأنها كتابة غير مفهومة وغير سليمة، لا تحترم القواعد الإملائية والنحوية التي تخضع لها كتابة أية لغة. وهي كتابة غير سليمة ولا تحترم قواعد الكتابة وذلك لسبب بسيط، هو أن أصحابها لم يتعلموها في المدرسة، لأن شروط الكتابة والقراءة لأية لغة هي تعلمهما في المدرسة بواسطة معلم مختص، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
هذه الكتابة غير السليمة للأمازيغية، أقف عليها أسبوعيا عندما أتوصل بعشرات النصوص الأمازيغية التي لا تتوفر على شروط الكتابة الصحيحة، مما يجعل قراءتها وفهمها أمرا صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا، رغم أن بعضها مكتوب من طرف مثقفين ذوي مستوى تعلمي عالٍ. فهؤلاء الكتاب الأمازيغيون يظنون أنهم "يكتبون"، لكنهم في الحقيقة يدوّنون خطيا Transcrire ما ينطقون به صوتيا. وهذه ليست كتابة، بل هي مجرد كلام مدوّن Transcrit بحروف لاتينية في الغالب. وشتان بين الكتابة، الخاضعة للقواعد النحوية والإملائية، والتي من شروط إتقانها تعلمها في المدرسة، وبين التدوين الخطي Transcription graphique الذي لا يخضع لقواعد الكتابة السليمة والصحيحة، وبالتالي لا يساهم إطلاقا في الانتقال بالأمازيغية من المستوى الشفوي إلى المستوى الكتابي المنشود. ولغياب قواعد الكتابة (والقراءة التابعة لها) لعدم تعلمها في المدرسة، لا يُقبِل الأمازيغيون على قراءة النصوص المنشورة بالأمازيغية لأنهم لا يعرفون كيف يقرأونها، وهو ما يعني أنهم لا يفهمونها، لأن القراءة والكتابة تحتاجان إلى مدرسة لتعلمهما، كما شرحنا.
وهنا نفهم لماذا لم يقتنِ الأمازيغيون الهاتف النقال الذي أنتجته "اتصالات المغرب" و"ليركام" في 2007، والموجه خصيصا للأمازيغيين لأنه يمكّنهم من كتابة رسائل "س.م.س" (sms) بالأمازيغية وبحرفها "تيفيناغ". لم يقتنوه لأنهم لا يعرفون كيف يكتبون بالأمازيغية التي لم يتعلموها بالمدرسة، ولا يعرفون أيضا كيف يقرأون ما قد يرد عليهم من رسائل مكتوبة بالأمازيغية كذلك. فأنا مثلا، رغم أني بذلت مجهودا شخصيا لتعلم قواعد الكتابة الأمازيغية التي أمارسها شهريا من خلال كتابة افتتاحية بالأمازيغية بشهرية "تاويزا"، إلا أنني لم أشترِ ذلك الهاتف "الأمازيغي". لماذا؟ لأنني أستعمل الرسائل الهاتفية في التواصل مع أسرتي وأقاربي وأصدقائي. ولا أحد من هؤلاء تعلم الأمازيغية في المدرسة، وبالتالي لا أحد منهم سيكون قادرا على قراءة وفهم الرسائل الأمازيغية التي سأبعثها له عبر الهاتف "الأمازيغي"، كما أنه لا يمكنه أن يراسلني بالأمازيغية التي لا يعرف كتابتها لأنه لم يتعلم حروفها ولا كتابتها بالمدرسة. وهكذا تصبح الفائدة من هذا الهاتف "الأمازيغي" منعدمة، اللهم التعامل مع الأمازيغيين كأطفال صغار يمكن إلهاؤهم وخداعهم ببعض اللعب الإلكترونية البسيطة.
ـ عندما يصر أمازيغيون، بفعل "إرادة" قوية لديهم، على استعمال أمازيغيتهم، كما يطالب بذلك أصحاب الموقف "الإرادوي"، فيكتبون عناوين رسائلهم البريدية بالأمازيغية، فإن هذه الرسائل تضيع ولا تصل إلى من أرسلت إليه، وهو ما سيردعهم ويثنيهم عن العودة إلى كتابة عناوين رسائلهم البريدية مرة أخرى بالأمازيغية.
أما عندما يصرون أيضا على استعمال الأمازيغية مع موظفي الإدارات العمومية، تعبيرا عن توفر "الإرادة" والغيرة من أجل فرض الأمازيغية واستعمالها، فإن مصالحهم التي جاؤوا من أجلها إلى تلك الإدارة، قد تضيع كذلك ولا تلبى الإدارة طلباتهم. وهو ما يردعهم كذلك ويثنيهم عن مواصلة استعمال الأمازيغية داخل الإدارات العمومية التي ترفض الأمازيغية امتثالا لـ"إرادة" الدولة الرافضة للأمازيغية كلغة في لإداراتها ومؤسساتها.
ـ بل حتى تدريس الأمازيغية الذي انطلق منذ شتمبر 2003، لم يستقبل بالحماس الذي كان منتظرا في الأوساط الأمازيغية. لماذا؟ لأن الكثير من الأمازيغيين يقولون: لماذا "سيضيّع" أولادهم الوقت والجهد في تعلم الأمازيغية التي لا يطالبون بها غدا في المباريات والاختبارات الخاصة بالشغل والتوظيف، والتي تشترط الفرنسية والعربية وليس الأمازيغية؟
بل الأكثر من ذلك أن عددا غير قليل من الأمازيغيين يتحدثون مع أطفالهم الصغار العربية الدارجة، فيكتسبها أولئك الأطفال كلغة أم مع حرمانهم من تعلم الأمازيغية كلغة أم أولى. وعندما نستفسرهم عن سبب هذا السلوك الضار بالأمازيغية، يجيبون بأن التلميذ الذي يتقن الدارجة المغربية يكون له امتياز، على مستوى سهولة التحصيل المدرسي، مقارنة مع التلميذ الذي لا يعرف سوى الأمازيغية التي لا تسمح له بفهم ما يقوله المعلم الذي يستعمل في الغالب الدارجة في الشرح وفي التواصل مع التلاميذ.
هذه الأمثلة توضح كيف أن الدولة، ذات "الإرادة" العروبية، توفر الشروط المثلى ليتخلى الأمازيغيون أنفسهم عن استعمال أمازيغيتهم، وذلك ليس لغياب "إرادة" النهوض بالأمازيغية لديهم، بل بسبب الإكراهات العملية، التي تفرضها عليهم الدولة، والتي تمنعهم من استعمالها الكتابي وحتى الشفوي في الكثير من الحالات. وهذا ما يساهم بدوره في مزيد من إقصاء الأمازيغية والتخلي عنها عندما يقول خصومها: ما الفائدة من العناية بالأمازيغية التي تخلى عنها أصحابها الأمازيغيون أنفسهم؟
هكذا نلاحظ أن توفر "الإرادة" الفردية للأمازيغيين للدفاع عن أمازيغيتهم والنهوض بها، يكون غير ذي جدوى أمام "إرادة" الدولة التي (الإرادة) تقصي الأمازيغية. وحتى إذا كانت هذه "الإرادة" الفردية الأمازيغية غائبة، كما رأينا في حالة من يعلمون صغارهم الدارجة بدل الأمازيغية، فذلك راجع إلى "إرادة" الدولة العروبية التي تثبط تلك "الإرادة" الأمازيغية بجعلها فاقدة لأية جدوى أو تأثير.
كل هذا يبيّن أن العدو الحقيقي والوحيد للأمازيغية، اليوم، ليس من تنقصه "الإرادة" لاستعمالها والدفاع عنها وتنميتها من الأمازيغيين، ولا حتى من يرفضها ويعاديها من "العرب" المغاربة، بل إن هذا العدو الحقيقي والوحيد، كما قلت، هو الدولة، بـ"إرادتها" السياسية الرافضة للأمازيغية كهوية لها. أما "الأعداء" الآخرون للأمازيغية ـ من غير الدولة ـ كأفراد، فإن الدولة، بإقصائها السياسي للأمازيغية، هي التي جعلت ـ عمليا وتحت إكراهات شتى ـ من هؤلاء الأفراد أعداء للأمازيغية، كما رأينا في الأمثلة السابقة.
فلو "أرادت" الدولة أن تنهض بتدريس الأمازيغية بشكل جدي وصادق، ماذا كان عليها أن تفعل أولا؟ سوف لا تكتفي بتدريسها للتلاميذ في الفصول وانتهى الأمر، وهو ما تدعي أنها تفعله اليوم، الشيء الذي يفسر الفشل الذريع لهذا التدريس كما يعرف الجميع. إن أول ما ستفعله هو إصدار قوانين تنص على وجوب إتقان الأمازيغية كتابة وقراءة وكلاما، على كل من يريد الترشح لشغل وظيفة في الدولة، بعد مدة معقولة من بداية تدريسها للجميع حتى يكون ذلك المترشح قد تعلمها في المدرسة. ففي هذه الحالة، التي يكون فيها إتقان الأمازيغية شرطا للحصول على شغل أو وظيفة، ستنتشر وتزدهر، وبشكل تلقائي، دروس الساعات الإضافية في مادة اللغة الأمازيغية، كما هو شأن العربية والفرنسية والرياضيات. وعندما تتوفر مثل هذه "الإرادة" لدى الدولة للنهوض بالأمازيغية، مع إصدار قوانين ملزمة لصالحها (الأمازيغية)، فلن يكون لغياب "الإرادة" الفردية في النهوض بالأمازيغية، سواء عند الأمازيغيين أو غير الأمازيغيين بالمغرب، أي تأثير على هذا النهوض بالأمازيغية وفرض وتعميم استعمالها وإتقانها، لأن الأرزاق تصبح مشروطة بهذا الاستعمال وهذا الإتقان.
فما يجب إذن أن يطالب به المدافعون عن الأمازيغية الغيورون عليها، ليس أن يغير الأمازيغيون "إرادتهم" في الاتجاه الذي يخدم الأمازيغية ويرد لها الاعتبار، بل أن يطالبوهم بالضغط على الدولة العروبية لتغير "إرادتها" هي لصالح الأمازيغية، هذه "الإرادة" التي يجب أن تنتقل من رفض الأمازيغية إلى الاعتراف بها كهوية لهذه الدولة انسجاما مع هوية الأرض الأمازيغية للمغرب. فما لم تصبح الدولة بالمغرب ذات هوية أمازيغية، تبقى إرادتها دائما ذات حمولة أمازيغوفوبية بحكم انتمائها الهوياتي العروبي المناقض للانتماء الأمازيغي لأرض المغرب. فالنضال من أجل الأمازيغية، ينبغي إذن أن ينتقل إلى النضال من أجل الدولة الأمازيغية، تبعا للأرض الأمازيغية للمغرب التي تحكمه هذه الدولة.
مع توسع الحركة الأمازيغية وتزايد المطالب الأمازيغية وتنامي الوعي بالهوية الأمازيغية وانتشار الكتابة والتأليف بالأمازيغية، أصبح الكثير من النشطاء الأمازيغيين يمارسون نوعا من "الديكتاتورية" على غيرهم من الأمازيغيين عندما يطالبونهم بالتواصل فيما بينهم كتابة بالأمازيغية بدل العربية أو الفرنسية، وبذل مجهود لقراءة الإنتاجات المنشورة بالأمازيغية، والعمل على استعمال الأمازيغية داخل الإدارات العمومية في التخاطب مع موظفيها والعاملين بها...
يجب الإقرار أولا أن مثل هذه المواقف الأمازيغية "المتشددة" لا يمكن إلا أن تصدر عن مناضلين صادقين في نضالهم، غيورين على الأمازيغية التي يخافون من موتها لعدم استعمالها وتداولها لغة وثقافة. وهي مواقف تخدم طبعا هذه الأمازيغية لأنها توفر لها شروط البقاء والاستمرار والنمو عن طريق التداول والاستعمال. وهذا ما ينبغي أن يتصف به ويدعو إليه كل محب للأمازيغية يرغب في حمايتها وتنميتها والحفاظ عليها.
هؤلاء المناضلون ـ الصادقون كما قلت ـ يحمّلون قسطا أكبر من المسؤولية، في ما تعرفه الأمازيغية من تهميش وإقصاء وتراجع، إلى الأمازيغيين أنفسهم الذين لا يكتبون بها ولا يقرأون القليل مما كتب بها، حتى يفرضوا انتشارها واستعمالها الكتابيين ليرتقوا بها من المستوى الشفوي اللهجي إلى المستوى الكتابي الذي يمنحها المكانة المحترمة التي تستحقها.
كل هذا صحيح، وصحيح جدا: فقلة من الأمازيغيين هم الذين يكتبون بالأمازيغية ليتواصلوا فيما بينهم، وقليل من هذه القلة يقرأون ما ينشر بالأمازيغية. ومن السهل إذن إلقاء اللوم على الأمازيغيين و"اتهامهم" بغياب الغيرة لديهم على أمازيغيتهم التي يتفرجون على موتها البطيء دون أن يفعلوا شيئا لإنقاذها.
هذه المواقف الصادقة والنبيلة والوطنية ـ بلا شك ـ رغم دورها التحفيزي والتوعوي، إلا أن عيبها الكبير أنها مواقف "إرادوية" تنطلق من الاعتقاد الخاطئ أنه يكفي أن تتوفر "الإرادة" لدى الأمازيغيين لرد الاعتبار لأمازيغيتهم حتى تخرج من دائرة الإقصاء وتصبح بألف خير وعلى أحسن ما يرام. إن هذه المواقف ـ وهذا هو خطؤها ـ تنظر إلى الأمازيغيين كما لو كانوا وحدهم في الساحة ويملكون سلطة الفعل والقرار، وبالتالي يمكنهم أن ينهضوا بأمازيغيتهم إذا "أرادوا" ذلك. هذه المواقف تتجاهل إذن وجود "إرادة" أقوى من إرادة الأمازيغيين. إنها "إرادة" الدولة صاحبة الحكم والسلطة. إنها "إرادة" أقوى من الجميع لأنها تتوفر على وسائل الأمر والنهي، الزجر والمكافأة، المنع والإجازة، الإكراه والقمع...
هذه "الإرادة" الدولتية الأقوى، هي اليوم "إرادة" عروبية وغير أمازيغية، بل أمازيغوفوبية لا تكنّ ودا للأمازيغية. وهذا ما يفسر أن "إرادة" الأمازيغيين للنهوض بأمازيغيتهم تبدو كما لو كانت غائبة أو منعدمة، لأنها لا حول لها ولا قوة أمام "إرادة" الدولة العروبية التي لها الكلمة الأخيرة في مسائل اللغة والثقافة والتعليم والإعلام، أي في كل ما يمكن أن يخدم ويحيي وينعش الأمازيغية، أو يعيق ويميت تطورها وتنميتها، حسب ما تقرره تلك "الإرادة". وبما أن الدولة العروبية بالمغرب "تريد" فرض العربية والفرنسية وإقصاء الأمازيغية، فإن ذلك ينعكس على سلوك الأمازيغيين تجاه أمازيغيتهم.
لنشرح ونوضح هذه المسألة:
لماذا لا يكتب الأمازيغيون بالأمازيغية؟ لماذا لا يقرأون ما يكتب بالأمازيغية؟
يجيب أصحاب الموقف "الإرادوي"، الذي عرضنا له أعلاه، لأنهم لا "يريدون" ذلك، لأن "الإرادة" تنقصهم.
وهذا غير صحيح. لماذا؟
لأن اللغة، أية لغة، إذا كان تعلم استعمالها الشفوي ممكنا وسهلا دون الحاجة إلى مدرسة ولا معلم، فإن تعلم كتابتها وقراءتها غير ممكن، وصعب بدون مدرسة ولا معلم (لا يهم أن تكون المدرسة تقليدية ككتاب قرآني والمعلم على شكل "فقيه") مهما كانت "إرادة" التعلم قوية لدى الشخص المعني. واليوم، نعرف أن مسألة التعليم أمر تختص به الدولة. وبما أن هذه الدولة لم "ترد" تدريس الأمازيغية وتعميم تعليمها، فإن الأمازيغيين لا يعرفون كتابة وقراءة أمازيغيتهم لأنهم لم يتعلموا ذلك في المدرسة مثلما تعلموا كتابة وقراءة العربية والفرنسية.
النتيجة أنه حتى عندما تتوفر "إرادة" أقوى لدى الأمازيغيين لكتابة أمازيغيتهم وقراءتها، فإن ذلك لا يفيد كثيرا أمام "إرادة" الدولة التي تقرر العكس، أي تريد إقصاء الأمازيغية. لماذا لا يكون ذلك مفيدا ولا مجديا للأمازيغية؟
ـ لأنه حتى عندما يكتب الأمازيغيون أمازيغيتهم، فإن غالبيتهم يكتبونها بطريقة تنفّر من قراءتها لأنها كتابة غير مفهومة وغير سليمة، لا تحترم القواعد الإملائية والنحوية التي تخضع لها كتابة أية لغة. وهي كتابة غير سليمة ولا تحترم قواعد الكتابة وذلك لسبب بسيط، هو أن أصحابها لم يتعلموها في المدرسة، لأن شروط الكتابة والقراءة لأية لغة هي تعلمهما في المدرسة بواسطة معلم مختص، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
هذه الكتابة غير السليمة للأمازيغية، أقف عليها أسبوعيا عندما أتوصل بعشرات النصوص الأمازيغية التي لا تتوفر على شروط الكتابة الصحيحة، مما يجعل قراءتها وفهمها أمرا صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا، رغم أن بعضها مكتوب من طرف مثقفين ذوي مستوى تعلمي عالٍ. فهؤلاء الكتاب الأمازيغيون يظنون أنهم "يكتبون"، لكنهم في الحقيقة يدوّنون خطيا Transcrire ما ينطقون به صوتيا. وهذه ليست كتابة، بل هي مجرد كلام مدوّن Transcrit بحروف لاتينية في الغالب. وشتان بين الكتابة، الخاضعة للقواعد النحوية والإملائية، والتي من شروط إتقانها تعلمها في المدرسة، وبين التدوين الخطي Transcription graphique الذي لا يخضع لقواعد الكتابة السليمة والصحيحة، وبالتالي لا يساهم إطلاقا في الانتقال بالأمازيغية من المستوى الشفوي إلى المستوى الكتابي المنشود. ولغياب قواعد الكتابة (والقراءة التابعة لها) لعدم تعلمها في المدرسة، لا يُقبِل الأمازيغيون على قراءة النصوص المنشورة بالأمازيغية لأنهم لا يعرفون كيف يقرأونها، وهو ما يعني أنهم لا يفهمونها، لأن القراءة والكتابة تحتاجان إلى مدرسة لتعلمهما، كما شرحنا.
وهنا نفهم لماذا لم يقتنِ الأمازيغيون الهاتف النقال الذي أنتجته "اتصالات المغرب" و"ليركام" في 2007، والموجه خصيصا للأمازيغيين لأنه يمكّنهم من كتابة رسائل "س.م.س" (sms) بالأمازيغية وبحرفها "تيفيناغ". لم يقتنوه لأنهم لا يعرفون كيف يكتبون بالأمازيغية التي لم يتعلموها بالمدرسة، ولا يعرفون أيضا كيف يقرأون ما قد يرد عليهم من رسائل مكتوبة بالأمازيغية كذلك. فأنا مثلا، رغم أني بذلت مجهودا شخصيا لتعلم قواعد الكتابة الأمازيغية التي أمارسها شهريا من خلال كتابة افتتاحية بالأمازيغية بشهرية "تاويزا"، إلا أنني لم أشترِ ذلك الهاتف "الأمازيغي". لماذا؟ لأنني أستعمل الرسائل الهاتفية في التواصل مع أسرتي وأقاربي وأصدقائي. ولا أحد من هؤلاء تعلم الأمازيغية في المدرسة، وبالتالي لا أحد منهم سيكون قادرا على قراءة وفهم الرسائل الأمازيغية التي سأبعثها له عبر الهاتف "الأمازيغي"، كما أنه لا يمكنه أن يراسلني بالأمازيغية التي لا يعرف كتابتها لأنه لم يتعلم حروفها ولا كتابتها بالمدرسة. وهكذا تصبح الفائدة من هذا الهاتف "الأمازيغي" منعدمة، اللهم التعامل مع الأمازيغيين كأطفال صغار يمكن إلهاؤهم وخداعهم ببعض اللعب الإلكترونية البسيطة.
ـ عندما يصر أمازيغيون، بفعل "إرادة" قوية لديهم، على استعمال أمازيغيتهم، كما يطالب بذلك أصحاب الموقف "الإرادوي"، فيكتبون عناوين رسائلهم البريدية بالأمازيغية، فإن هذه الرسائل تضيع ولا تصل إلى من أرسلت إليه، وهو ما سيردعهم ويثنيهم عن العودة إلى كتابة عناوين رسائلهم البريدية مرة أخرى بالأمازيغية.
أما عندما يصرون أيضا على استعمال الأمازيغية مع موظفي الإدارات العمومية، تعبيرا عن توفر "الإرادة" والغيرة من أجل فرض الأمازيغية واستعمالها، فإن مصالحهم التي جاؤوا من أجلها إلى تلك الإدارة، قد تضيع كذلك ولا تلبى الإدارة طلباتهم. وهو ما يردعهم كذلك ويثنيهم عن مواصلة استعمال الأمازيغية داخل الإدارات العمومية التي ترفض الأمازيغية امتثالا لـ"إرادة" الدولة الرافضة للأمازيغية كلغة في لإداراتها ومؤسساتها.
ـ بل حتى تدريس الأمازيغية الذي انطلق منذ شتمبر 2003، لم يستقبل بالحماس الذي كان منتظرا في الأوساط الأمازيغية. لماذا؟ لأن الكثير من الأمازيغيين يقولون: لماذا "سيضيّع" أولادهم الوقت والجهد في تعلم الأمازيغية التي لا يطالبون بها غدا في المباريات والاختبارات الخاصة بالشغل والتوظيف، والتي تشترط الفرنسية والعربية وليس الأمازيغية؟
بل الأكثر من ذلك أن عددا غير قليل من الأمازيغيين يتحدثون مع أطفالهم الصغار العربية الدارجة، فيكتسبها أولئك الأطفال كلغة أم مع حرمانهم من تعلم الأمازيغية كلغة أم أولى. وعندما نستفسرهم عن سبب هذا السلوك الضار بالأمازيغية، يجيبون بأن التلميذ الذي يتقن الدارجة المغربية يكون له امتياز، على مستوى سهولة التحصيل المدرسي، مقارنة مع التلميذ الذي لا يعرف سوى الأمازيغية التي لا تسمح له بفهم ما يقوله المعلم الذي يستعمل في الغالب الدارجة في الشرح وفي التواصل مع التلاميذ.
هذه الأمثلة توضح كيف أن الدولة، ذات "الإرادة" العروبية، توفر الشروط المثلى ليتخلى الأمازيغيون أنفسهم عن استعمال أمازيغيتهم، وذلك ليس لغياب "إرادة" النهوض بالأمازيغية لديهم، بل بسبب الإكراهات العملية، التي تفرضها عليهم الدولة، والتي تمنعهم من استعمالها الكتابي وحتى الشفوي في الكثير من الحالات. وهذا ما يساهم بدوره في مزيد من إقصاء الأمازيغية والتخلي عنها عندما يقول خصومها: ما الفائدة من العناية بالأمازيغية التي تخلى عنها أصحابها الأمازيغيون أنفسهم؟
هكذا نلاحظ أن توفر "الإرادة" الفردية للأمازيغيين للدفاع عن أمازيغيتهم والنهوض بها، يكون غير ذي جدوى أمام "إرادة" الدولة التي (الإرادة) تقصي الأمازيغية. وحتى إذا كانت هذه "الإرادة" الفردية الأمازيغية غائبة، كما رأينا في حالة من يعلمون صغارهم الدارجة بدل الأمازيغية، فذلك راجع إلى "إرادة" الدولة العروبية التي تثبط تلك "الإرادة" الأمازيغية بجعلها فاقدة لأية جدوى أو تأثير.
كل هذا يبيّن أن العدو الحقيقي والوحيد للأمازيغية، اليوم، ليس من تنقصه "الإرادة" لاستعمالها والدفاع عنها وتنميتها من الأمازيغيين، ولا حتى من يرفضها ويعاديها من "العرب" المغاربة، بل إن هذا العدو الحقيقي والوحيد، كما قلت، هو الدولة، بـ"إرادتها" السياسية الرافضة للأمازيغية كهوية لها. أما "الأعداء" الآخرون للأمازيغية ـ من غير الدولة ـ كأفراد، فإن الدولة، بإقصائها السياسي للأمازيغية، هي التي جعلت ـ عمليا وتحت إكراهات شتى ـ من هؤلاء الأفراد أعداء للأمازيغية، كما رأينا في الأمثلة السابقة.
فلو "أرادت" الدولة أن تنهض بتدريس الأمازيغية بشكل جدي وصادق، ماذا كان عليها أن تفعل أولا؟ سوف لا تكتفي بتدريسها للتلاميذ في الفصول وانتهى الأمر، وهو ما تدعي أنها تفعله اليوم، الشيء الذي يفسر الفشل الذريع لهذا التدريس كما يعرف الجميع. إن أول ما ستفعله هو إصدار قوانين تنص على وجوب إتقان الأمازيغية كتابة وقراءة وكلاما، على كل من يريد الترشح لشغل وظيفة في الدولة، بعد مدة معقولة من بداية تدريسها للجميع حتى يكون ذلك المترشح قد تعلمها في المدرسة. ففي هذه الحالة، التي يكون فيها إتقان الأمازيغية شرطا للحصول على شغل أو وظيفة، ستنتشر وتزدهر، وبشكل تلقائي، دروس الساعات الإضافية في مادة اللغة الأمازيغية، كما هو شأن العربية والفرنسية والرياضيات. وعندما تتوفر مثل هذه "الإرادة" لدى الدولة للنهوض بالأمازيغية، مع إصدار قوانين ملزمة لصالحها (الأمازيغية)، فلن يكون لغياب "الإرادة" الفردية في النهوض بالأمازيغية، سواء عند الأمازيغيين أو غير الأمازيغيين بالمغرب، أي تأثير على هذا النهوض بالأمازيغية وفرض وتعميم استعمالها وإتقانها، لأن الأرزاق تصبح مشروطة بهذا الاستعمال وهذا الإتقان.
فما يجب إذن أن يطالب به المدافعون عن الأمازيغية الغيورون عليها، ليس أن يغير الأمازيغيون "إرادتهم" في الاتجاه الذي يخدم الأمازيغية ويرد لها الاعتبار، بل أن يطالبوهم بالضغط على الدولة العروبية لتغير "إرادتها" هي لصالح الأمازيغية، هذه "الإرادة" التي يجب أن تنتقل من رفض الأمازيغية إلى الاعتراف بها كهوية لهذه الدولة انسجاما مع هوية الأرض الأمازيغية للمغرب. فما لم تصبح الدولة بالمغرب ذات هوية أمازيغية، تبقى إرادتها دائما ذات حمولة أمازيغوفوبية بحكم انتمائها الهوياتي العروبي المناقض للانتماء الأمازيغي لأرض المغرب. فالنضال من أجل الأمازيغية، ينبغي إذن أن ينتقل إلى النضال من أجل الدولة الأمازيغية، تبعا للأرض الأمازيغية للمغرب التي تحكمه هذه الدولة.
مواضيع ذات صلة
التعليقات
النهوض بالأمازيغية يتوقف على إرادة الدولة وليس على إرادة الأمازيغيين