لمحة عن العالم الأمازيغي محمد الآبلي أستاذ ابن خلدون
ولد العالم الأمازيغي محمد الآبلي بمدينة تلمسان الأمازيغية، في القرن الثامن الهجري، سنة 1282 ميلادية،وتوفّي سنة 757 هـ ( 1356م)، وإسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي التلمساني Abu Abdullah Muhammad bin Ibrahim Al-Abili، وهو عالم منطقي ورياضي، وينحدر من أسرة أمازيغية كانت مقيمة بمدينة آبلة Avilla الأندلسية تم عادت إلى مدينة تلمسان ، حيث أصبح والده من مساعدي الأمير الامازيغي يغمراسن بن زيان، مؤسس الدولة الزيانية الأمازيغية سنة 1235 ميلادية.
لمحة عن العالم الأمازيغي محمد الآبلي أستاذ ابن خلدون
كانت مدينة تلمسان الأمازيغية في عصر الدولة الزيانية الأمازيغية تعد موطنا للعلوم العقلية في شمال فريقيا، وكان من بين فنونها ما كان يطلق عليه اسم ( التعاليم )، وهي: كما يقول ابن خلدون في المقدمة: العلوم الناظرة في المقادير، وهي: علم الهندسة وعلم الإرتماطيقي، والفلسفة وعلم الهيئة" وكان الآبلي شيخ العلوم العقلية في عصره، و يعتبر من أشهر علماء المغرب الأوسط ، وأحد أساتذة العلامة ابن خلدون و العلامة لسان الدين بن الخطيب وغيرهم كثير.
أخذ الآبلي العلم عن ابن الإمام، وإهتم بالرياضيات والعلوم العقلية وتفوق في علم المنطق، فعين مدرساً في سن مبكر، وعندما حاصر المرينيون مدينة تلمسان، خرج منها وتوجه إلى الحجاز بالمشرق.
توقف العالم الأمازيغي محمد الآبلي بمدينة القاهرة حيث اتصل بعلمائها وأخدوا عنه بعض العلوم العقلية حتى بلغ بلدان المشرق، وفي طريق العودة، مر بمدينة بجاية الامازيغية حيث مكث وقتاً لا بأس به لدراسة مختصر ابن الحاجب . ولما رفع الحصار عن تلمسان، عاد إليها مجددا لمواصلة حضور دروس ابن الإمام والتدريس بها ، وقد أخذ عنه ابن خلدون العلم وتتلمد على يديه كما اعترف بذلك ابن خلدون شخصيا في كتبه، وهي الاعترافات التي سيتم ذكرها في هذا المقال .
رحلة العالم الامازيغي الأبلي في تدريس العلوم بالغرب الاسلامي
غادر الآبلي مدينة تلمسان مرة ثانية بعد أن اختلف مع الأمير الأمازيغي أبي حمو موسى الزياني، الذي عرض عليه وظيفة المحاسبة والاشراف على بيت المال، لكن الآبلي رفض المنصب وغادر إلى فاس ثم مراكش، حيث أخذ عن العلامة ابن البناء المراكشي الامازيغي، الرياضي المشهور. وانتقل بعدها إلى جبال الأطلس ليدرّس بها الرياضيات والمنطق لفترة طويلة، قبل أن يعود إلى فاس التي امتهن فيها التدريس استادا وتخرج على يديه عشرات الطلاب .
وبعد الدعوة التي وجهها له الزعيم الامازيغي علي بن محمد بن تروميت، وهو زعيم قبيلة هسكورة الأمازيغية بالأطس الكبير، لم يتردد الآبلي في قبول دعوته، ليكون في منأى عن الصخب، وليغمر نفسه بالسكينة ويوفر له الجو الملائم للدرس والتأمل والنظر، فصعد إليه، وأقام عنده مدّة قرأ عليه فيها، فحقق الآبلي ما كان يرجوه من هذه الدعوة، ولقي حضوة كبيرة عند ابن تروميت، ومودة صادقة، ورغبة في التحصيل، أثلجت صدره ورفعت من شأنه بين أبناء الجبل، فأقبل عليه طلاب العلم من كل فج يجلسون إليه ويأخذون عنه العلم. وتبوأ مكانه للمرة الأولى، بعد عهد الشباب في تلمسان، أستاذا كبير المنزلة، ذائع الصيت، وبذلك نعتبر تحول الآبلي إلى الجبل ومقامه به يعد معلما من معالمه البارزة ذات الأثر البعيد في مسيرة حياته العلمية.
وهذا يؤكده يحي بن خلدون في كتابه ( البغية )، عن هذه الفترة من حياته إذ يقول منوها باتجاهه العلمي، ومنزلته بين علماء عصره: "واستقر بجبال الهساكرة (في اشارة لجبال الاطلس)، عند على محمد بن تروميت، وكان طالبا للعلم، جماعا للكتب، فعكف عنده على النظر، إلى أن أفاق أهل زمانه في العلوم العقلية بأسرها، حتى إني لا أعرف بالمغرب وإفريقية فقيها كبيرا إلا وله عليه مشيخة".
ومهما يكن من أمر، فقد كانت إقامته هذه في جبال الاطلس، بعيدا عن الفتن والاضطرابات وأسباب القلق التي كانت تضطرب بها مراكش سياسيا في تلك الفترة، والحفاوة التي تلقاها من أهله، وما حققه لنفسه من تحصيل للعلم، ترشيحا لإقامته بعد ذلك في فاس، مركز الحياة العلمية في المغرب الأقصى في ذلك العصر، وأحد المراكز الكبرى في المغرب الإسلامي، والعالم الإسلامي أستاذا موفورا الجلال، تعرف الدولة قدره، ويسعى إليه أهل العلم وطلابه من كلّ جهة.
واستقر بفاس للتدريس، وقد أصبحت مجالسه مهوى قلوبهم. وتخرج عنه أجيال من أهل العلم على مستوى المغرب الإسلامي كلّه، ومن هؤلاء الذين تخرجوا عليه في هذه الفترة من صاروا من الأعلام المرموقين الذين يحتلون في الحياة العلمية مكانا رفيعا، كأبي عبد الله، محمد بن محمد بن الصباغ، الذي ذكره ابن خلدون في التعريف به: إنه " من أهل مكناسة، كان مبرزا في المنقول والمعقول، وعارفا بالحديث ورجاله، وإماما في معرفة كتاب الموطأ وإقرائه، أخذ العلم عن مشيخة فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الآبلي ولازمه، وأخذ عنه العلوم العقلية، فاستنفذ طلبه عليه، واختاره السلطان لمجلسه".
وبعد هذه المرحلة الطويلة الحافلة في حياة أبي عبد الله الآبلي بدأت مرحلة أخرى بمضي السلطان الامازيغي أبي الحسن المريني إلى تونس، مستصحبا مجلسه العلمي، وكان العالم الامازيغي محمد الآبلي ضمنه، بل أبرز أعضائه وأوثقهم بالسلطان صلة.
ومنذ أن بلغ تونس، سنة 748هـ، وقعت صلته بآل خلدون، ولم تلبث هذه الصلة أن توثقت، وكانت هي التي مهدت لابن خلدون سبيله إليه، فاتخذه إبن خلدون أستاذا له، فكان من اخلص تلاميذه وأصدق مريديه.
وقد قال ابن خلدون في هذا الشأن : " ...وكانت قد حصلت بين الآبلي وبين والدي، رحمه الله صحابة كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه. فلزمت مجلسه، واتخذت منه، وافتتحت العلوم العقلية بالتعاليم، ثم قرأت المنطق وما بعده من الأصليين، وعلوم الحكمة. وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب. وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا فأشرنا عليه بالمقام، وثبطناه عن السفر، فقبل وأقام، وطالبنا به السلطان أبو الحسن، فأحسنا له العذر، وتجافى عنه. وكان من حديث غرقه في البحر ما قدمناه. وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه والأخذ عنه".
بعض أقوال العلماء والمشتشرقين عن الآبلي
وُصف العالم الأمازيغي محمد الآبلي مراراً بالرجل الفطن، كثير الإطلاع والحفظ، والبارع في حل الألغاز. وقد نال ثناءً كثيرا من قبل معاصريه والآحقين له من العلماء.ويذكر عبد الرحمن الجيلالي أن يحيى بن خلدون قال في الثناء على الآبلي :
” إني لا أعرف بالمغرب وإفريقية فقيها كبيراً إلا وله عليه مشيخة “.
وقال عنه العلامة ابن مرزوق :
” شيخ المغرب في العلوم العقلية وإمام وقته”.
كما وصفه تلميذه عبد الرحمن بن خلدون في كتابه لباب المحصل في علوم الدين، بقوله :
” هو سيدنا ومولانا الإمام الكبير، العالم العلامة فخر الدنيا والدین، حجة الإسلام والمسلمين، غیاث النفوس … رضي الله عن مقامه ، وأوزعني شكر نعامه، شيخ الجلالة وإمامها، ومبدأ المعارف وختامها، ألقت العلوم زمامها بيده وملّكته ما ضاهى به كثيرا ممّن قبله وملّكته ما لا ينبغي لأحد من بعده، فهي جارية على وفق مراده، سائغة له حالتَيْ إصداره وإيراده. فاقتطفنا من يانع أزهاره واغترفنا من معين أنهاره، وأفاض علينا سيب علومه، وحلانا بمنثور دره ومنظومه”.
و يكفي أن نورد هذه الصفات التي وصفها به ابن خلدون في كتابه ”لباب المحصّل في أصول الدّين“ كي نعلم مدى أهميّة هذا الشيخ الكبرى في المسيرة العلميّة لتلميذه إبن خلدون.
لقد حافظ ابن خلدون على رأيه وموقفه من شيخه الآبلي، إذ نلاحظ نفس صفات التِجِلَّة والوقار بالتعريف الذي كتبه في أواخر حياته، في حين أن اللباب قد كتبه بتونس وهو لم يتجاوز العقد الثاني من عمره. فيصفه بالتعريف قائلا : « ... شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم ... » (7/386) ونظرا لأهميّة هذه الشخصيّة في حياة وتكوين ابن خلدون، رأيت من الضروري التعرّف على مدى تأثّره بشيخه مقارنة ببقيّة شيوخه.
ويقول عنه المستشرق الفرنسي جاك بيرك (الذي توفي عام 1995 م):
“إنَّه لوجه غريب هذا الآبلي، هذا المُعلِّم الرَّحَّالة الذي يُبدي بين أونةٍ وأُخرى من الشُّذُوذ الفكري تعمُّقاً في الحسابات الإقليدية وفي الفقه وفي المجاهدة الصُّوفية، وهو في الوقت ذاته؛ ينزِعُ نزعةً عقلية حُرَّةً في الثَّورة ضِدَّ الخُنوع الفكري الذي كان سائداً في المؤسَّسات العلمية في زمانه، حيثُ كانت تتراكم كُتُبُ الشُّرُوح والتَّفاسير والهوامش التي كانت كالغذاء المتعفِّن وسُبَّة لا تُغتَفَر ضِدَّ الفِكر”.
المصادر والمراجع المعتمدة
بحث الدكتور مكيوي محمد نسخة محفوظة على موقع واي باك مشين.
كتاب المسالك
مقدمة ابن خلدون