مسألة التفاهم بين الفروع الأمازيغية المتباعدة في شمال افريقيا ..بقلم: مبارك بلقاسم
بقلم: مبارك بلقاسم
إذا كانت هناك نقطة ضعف حساسة في القضية الأمازيغية تجاه الآخر فهي مسألة صعوبة أو قلة التفاهم بالأمازيغية بين الناطقين باللهجات الأمازيغية المتباعدة في كل من المروك والدزاير. وقد لعب خصوم وأعداء الأمازيغية العروبيون والفرنكوفونيون (وما زالوا) طويلا على هذه النقطة وجعلوها مرتكزا لاعتبارهم الأمازيغية مجرد اسم جامع للهجات متشرذمة ميئوس منها لا تفيد في شيء سوى التقسيم والبلقنة والتشويش على «الوحدة الوطنية».
وكمثال على ذلك، فقد رأينا جميعا الناطق الرسمي باسم الحكومة المروكية خالد الناصري وهو يبرر مماطلة الحكومة في مشروع «القناة الأمازيغية» بعدم وجود لغة أمازيغية واحدة! مشيرا إلى ما مضمونه أن «كثرة اللهجات» تصعب المهمة على الحكومة الشريفة في تنفيذ المشروع المذكور!
عادة ما يقدم هؤلاء الخصوم «بدائل» لهذا «التشرذم» وهي إما عربية مكتوبة لا يتكلمها أحد، مثقلة بالتراث الديني ومدعومة بالتأثير الإعلامي القادم من الشرق الأوسط، وإما عربية دارجة شعبية استفادت من وجود مراكز القرار السياسي والإعلامي في الرباط وفاس والدار البيضاء، أو فرنسية نخبوية موروثة عن الاحتلال الفرنسي وتلعب اليوم دور لغة التعليم العالي والاقتصاد وتدعمها النخب السياسية والاقتصادية المحظوظة.
يصطدم الأمازيغي الناطق بالأمازيغية يوميا بهذه الحالة السوسيولغوية. الريفيون لا يتفاهمون مع السوسيين ولا مع الأطلسيين ولا مع القبايليين باللغة الأمازيغية التي من المفروض أنها لغة واحدة بنظام نحوي واحد وجذور لغوية واحدة. وتصبح العربية الدارجة المروكية أو الدزايرية أو الفرنسية هي اللغات الوسيطة التي تفرض نفسها فرضا في المحيط الاجتماعي بجميع مستوياته، كلغات وسيطة وقادرة على إيصال الرسالة بأمان ووضوح وسهولة بين هؤلاء الأمازيغوفونيين المتباعدين جغرافيا.
لم يهتم الباحثون الأمازيغيون المعاصرون بالديالكتولوجيا Dialectology الأمازيغية وحالات الاختلاف بين اللهجات وقلة التواصل بينها، وقواسمها المشتركة. وبقي هذا المجال مظلما مجهولا لا يلتفت له أحد بالبحث المقارن المفصل إلا في حالات قليلة جدا. وبقي كل باحث محصورا في لهجة منطقته التي ينتمي إليها دون أن يلتفت للهجات الأخرى ويأخذها بنفس الجدية.
الأربع الكبار: "تاشلحيت"، "تاقبايليت"، تامازيغت الأطلس، "تاريفيت"
إنها "اللهجات" الشمالية الأربع الكبرى باعتبار ثقلها الديموغرافي وتأثيرها الثقافي المتفوق على باقي اللهجات الأمازيغية الشمالية الأصغر حجما والتي توجد في شمال ليبيا وتونس والدزاير.
من الناحية الديموغرافية، يمكن الجزم بدرجة معقولة من اليقين بأن عدد الناطقين بهذه اللهجات الأربع الكبرى (داخل تامازغا فقط) يتجاوز كحد أدنى حاجز الـ 3 ملايين نسمة بالنسبة لأمازيغية الريف، ويتجاوز الـ 5 ملايين بالنسبة لأمازيغية الأطلس، والـ 7 ملايين بالنسبة لأمازيغية القبايل، ويتجاوز حاجز الـ 9 ملايين بالنسبة لأمازيغية سوس "تاشلحيت" (تاسوسيت).
ورغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد الناطقين بكل لهجة وكذلك تنعدم لدينا القدرة على الإحاطة بمعدلات النمو السكاني لكل لهجة ولا بالهجرات الداخلية نحو المدن الكبرى (أنفا، الدزاير العاصمة، طنجة...) ونحو أوروبا، فإنه يمكننا القول إن ما لا يقل عن 80% من الناطقين بالأمازيغية يتحدثون بإحدى هذه اللهجات الأربع الكبرى.
ويبين الشكل الآتي توزيعا تقريبيا لأهم اللهجات الأمازيغية حسب أرقام معهد الـ Inalco الفرنسي وبعض المعطيات والمؤشرات الأخرى:
الشكل رقم 1 |
في الحقيقة هناك لهجتان أخريان ذات وزن ديموغرافي مهم هما لهجة الطوارق (تاماشيق) في الصحراء الأمازيغية الكبرى ولهجة الشاوية (الأوراس) بشمال شرق الدزاير. إلا أن وزنهما الديموغرافي وتأثيرهما ما زال لا يرقى إلى الأربع الكبار. كما أن لهجة الشاوية عانت من التجاهل من طرف اللغويين الأمازيغيين والأوروبيين، وهي تعيش اليوم على الهامش في ظل التأثير القبايلي القوي.
أما لهجة الطوارق فهي تنقسم إلى بضع لهيجات جد متقاربة فيما بينها. هذه اللهجة الصحراوية احتفظت ببعض الخصائص الفونيتيكية الأمازيغية الموغلة في القدم وطورت البعض الآخر بشكل شبه مستقل عن الشمال. وقد حظيت لهجة الطوارق باهتمام جيد من طرف اللغويين الأوروبيين متجاوزا، ربما، اهتمامهم بتاريفيت أو تاشلحيت مثلا!
ويبدو تقسيم اللغوي الهولندي الشاب الدكتور Maarten Kossmann للغة الأمازيغية بين قسمين: شمالي (تاريفيت، تاقبايليت، تاشلحيت...) وجنوبي (الطوارق)، تقسيما معقولا ويشي بأن انقسام لهجات الشمال فيما بينها هو حدث طارئ لا يتجاوز عمره القرن أو القرن ونصف على الأكثر.
الاختلاف بين اللهجات بين الإنكار والتجاهـل
تعتبر مسألة انعدام التبادل اللغوي المكثف بين اللهجات الأمازيغية المتباعدة مجالا لا مفكرا فيه من طرف الجزء الأكبر من المثقفين الأمازيغيين المساندين لفكرة الوحدة المطلقة للغة الأمازيغية. حيث يطبقون مبدأ “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”. فالدارس للغة الأمازيغية على الورق سينذهل حتما للتشابه الصارخ بين لهجات أمازيغية متباعدة بـ 1000 أو 2000 كيلومتر، إلا أن الواقع مختلف تماما. ويبدو أن المشكل يزداد تعقيدا بتجاهلنا له. ويفضل الأمازيغي المتوسط عادة توخي السلامة الزائدة فيستخدم العربية الدارجة مع أي شخص يعرف أنه قادم من مدينة بعيدة، رغم معرفته بأن هذا الشخص سوسي أو ريفي!
هل المسألة سيكولوجية بحتة؟ هل نتصرف وفق ما تم “تلقيمنا” إياه في مؤسسات التعليم الحكومي وعبر الإعلام الحكومي؟
الاختلاف بين اللهجات بين التضخيم والتطويع
هناك نظرة للهجات الأمازيغية تأتي من بعض كبار اللغويين من بينهم اللغوي الدزايري المقيم بأوروبا، الدكتور كمال نايت زراد. في كتابه Grammaire moderne du kabyle يحدد زراد “اللغة” الأمازيغية (كالقبايلية أو الشلحية) بأنها: “مجموعة من لهيجات منطقة معينة حيث لا توجد صعوبات في التفاهم فيما بينها”.
إذن، حسب هذه المقاربة، فصعوبة التفاهم بين تاريفيت وتاقبايليت وتاشلحيت المتباعدة جغرافيا هي نتيجة طبيعية لكونها لغات مستقلة عن بعضها البعض! وأن هذه “اللغات” نفسها تملك “لهيجات” تختلف فيما بينها قليلا مثل لهجتي الناظور والحسيمة في إطار تاريفيت أو لهجتي أكادير وورزازات في إطار تاشلحيت.
يرى زراد بأن الأمر يتعلق بـ “لغات أمازيغية”، أي “اللغة القبايلية” و”الشلحية” و”الريفية”. إلا أنه في نفس الوقت يستخدم مصطلح “لهجات” أحيانا و”لغات” أحيانا أخرى في دراساته حول اللغة الأمازيغية والتي ينجزها بالفرنسية. وزيادة على كل ذلك فقد اختار كمال نايت زراد اعتبار اللغة الأمازيغية لغة واحدة في مشروعه العملاق الذي يصدر بشكل تدريجي وما زال لم يكتمل بعد وهو: “معجم الجذور الأمازيغية” (أمازيغي فرنسي).
من جانب آخر هناك اسم كبير آخر هو الدكتور سالم شاكر، وهو قبايلي مقيم بأوروبا أيضا، ويبدو أن له ميلا قويا لفكرة استمرارية وحدة اللغة الأمازيغية. وهو صاحب مشروع القاموس الإلكتروني الأمازيغي الشامل. يستبعد سالم شاكر اعتبار اللهجات الأمازيغية لغات مستقلة ويبرهن على ذلك باستدلالات علمية بحتة.
ويقول شاكر في “الموسوعة الأمازيغية” (بالفرنسية): “على المستوى اللغوي البحت، فإن اعتبار الأمازيغية لغة واحدة يبقى اعتبارا صحيحا ومبرهنا عليه بقوة. ولا يوجد أبدا في الأمازيغية ما يسمح برسم حدود فاصلة بين اللهجات... لا توجد خاصية بنيوية قبايلية تنتمي إلى القبايلية فقط، وليست هناك ظاهرة شد شلحية غير معروفة في مناطق أمازيغية أخرى.”
ويضيف شاكر في نفس السياق: “إذا كانت النظرة التعددية (لغات أمازيغية متعددة) لا تملك أساسا لسانيا علميا حاسما، فمن المؤكد أنها تعتمد على أساس آخر هو: اللسانيات الاجتماعية. وهنا يكون النقاش معقدا، وتصبح مختلف التقديرات متباعدة كليا. وهذا يعني أن هذه التقديرات ستكون شخصية أو أيديولوجية بشكل كبير. يجب أن نتجاهل معيار التفاهم المتبادل، وهو معيار كلاسيكي ولكنه غير كاف.
نعرف منذ وقت طويل أن التفاهم المتبادل ليس معطى في حد ذاته، بل هو تشكيلة مزدوجة: التفاهم المتبادل ينبني على التبادل التواصلي وعلى الذاكرة الجماعية، إنه دائما نسبي ويصعب قياسه بشكل مطلق. إن تكاثف التواصل، مؤخرا، بين أمازيغوفونيين ذوي لهجات مختلفة، عبر الأغنية والراديو، كان كافيا لتغيير المعطيات بشكل ملموس في كثير من الحالات.” (Encyclopédie berbère, XV, 1995).
أما اللغويون ذوو الأصل الأوروبي فإن أكثر ما يهمهم هو دراسة الاختلافات اللهجية الأمازيغية بمنتهى الدقة واستنتاج العلاقات والأسباب. ويبدون غير معنيين كثيرا بوحدة اللغة الأمازيغية. إلا أن هذا لا يمنعهم من إبداء آرائهم الشخصية. فالهولندي الدكتور Harry Stroomer مثلا، الخبير بتاشلحيت، يرى بأن تاشلحيت تمتلك مقومات اللغة المستقلة. وقام بترجمة جزء كبير من التراث الشعبي الشلحي إلى اللغتين الإنجليزية والهولندية، وهو أيضا يحضر منذ زمن لقاموس عملاق شلحي فرنسي.
ويبقى اللغوي الفرنسي André Basset، وبعده المؤرخ واللغوي المروكي محمد شفيق من أبرز وأول الذين نادوا بوحدة اللغة الأمازيغية وسهولة الانتقال بين اللهجات المختلفة وتعلمها. وبرهن شفيق على ذلك بأبحاث موسعة أبرزها المعجم العربي الأمازيغي.
توحيد استعمال الأمازيغية.. عبر اللهجات
ماذا نقصد بـ”التوحيد” بالضبط؟ هل نحتاج حقا إلى صهر اللهجات أم أننا لا نحتاج إلا لإزالة الجدران والحواجز النفسية والمعرفية بين اللهجات؟
إن مسألة توحيد اللهجات الأمازيغية إذا شرعنا في إنجازها تعني أننا سنطور “لهجة/لغة” أمازيغية واحدة تصهر أهم مكونات اللهجات الأخرى وتحقق تواصلا سهلا وسلسا يبلغ به متكلموها درجات متقدمة من التبادل المعرفي والتواصلي تصبح به ومعه هذه اللغة/اللهجة قادرة على وصف ذاتها والعالم الخارجي دون أي نقص، والأبعد من ذلك (وهذا هو هدف التوحيد) أنها ستكون هي اللغة الوسيطة والجامعة (على المستوى الشعبي) لمجموعات بشرية متباعدة جغرافيا ومنتشرة على مساحات واسعة. هذه التطور سيحتاج إلى وقت قد يطول وقد يقصر حسب الظروف.
إن توحيد الأمازيغية ليس عملا مختبريا بحتا بل هو عمل كلامي عملي لن يتم إلا بالتبادل الشفوي بين الأمازيغوفونيين. هذه هي الطريقة الوحيدة لاختبار مدى إمكانية وسهولة التواصل، وهي الطريقة الوحيدة لخلق ثقافة شفوية مشتركة جديدة بين الأمازيغوفونيين على النطاقين الشعبي والجغرافي الواسعين. وسيكون لوسائل الإعلام الشعبية Mass Media دور مسرّع ومحفـز في هذا المجال لقدرتها على إلغاء المسافات وربح الوقت.
إذن فإن ما يمكن أن نفعله الآن ليس هو الصهر والتوحيد المصطنع، وإنما هو إزالة الحواجز الوهمية والانفتاح على هذه اللهجات وتعلمها وتكثير الكلمات الأمازيغية في لغتنا اليومية، عوض الاكتفاء باللهجة المحلية والاستسلام للغات الأجنبية مثلما نفعل الآن.
إزالة الحواجز التي لا وجود لها!
في المنطقة الفاصلة (نظريا) بين تاشلحيت وأمازيغية الأطلس لا يعرف أحد بالضبط أين تنتهي تاشلحيت وتبدأ “تامازيغت” الأطلس. هناك منطقة انتقالية بين اللهجتين استعصت على اللغويين المتخصصين أنفسهم، وباعتراف الهولندي Harry Stroomer نفسه الذي لم يستطع تحديد انتماء لهيجات من هذه المنطقة إلى تاشلحيت أو إلى تامازيغت (الأطلس الكبير). والحالة نفسها موجودة في بعض المناطق الانتقالية ما بين تاريفيت وأمازيغية الأطلس المتوسط. أما لهجة فيكيك فهي مجال توارد وتداخل بين تاريفيت وأمازيغية الأطلس ولهجات جنوب وهران، وهي قابلة للفهم من طرف الريفيين والأطلسيين على السواء. إذا كانت هناك كل هذه التداخلات والمناطق الانتقالية الكبيرة بين اللهجات الأمازيغية فإنها تهدم فرضية التقسيم والانقسام من الأساس!
إن الأمر يتعلق فقط بانعدام التواصل الشفوي. حينما ينعدم التواصل بين ضفتي نهر لمدة طويلة تظهر كلمات جديدة على إحدى ضفتي النهر بدون علم سكان الضفة الأخرى، وتظهر بعض التحورات الفونولوجية التي تخدع الملاحظ العادي وتخلق صعوبة أولية في التواصل، ولكن هذه التحورات لا تخدع الملاحظ الحاد الذي ينظر إلى البانوراما العامة ويستخدم القواسم المشتركة لمعالجة القواسم الغير المشتركة.