في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية (بقلم : علي صدقي ازايكو -1981)
هذا مقال الدكتور علي صدقي أزايكو، الذي كتبه تحت الاسم المستعار "ع. أوزوليظ"، ونُشر هذا المقال بمجلة "أمازيغ" العدد 1 سنة 1981، فتم مصادرة المجلة ومنع صدورها وإعتقال كاتب المقال الدكتور علي صدقي أزايكو والحكم عليه ظلما وتعسفا بسنة سجنا نافدة !!! بتهمة "المس بأمل الدولة" !!! من طرف النظام المتعصب للعروبة في أوج ظهور وزحف فكر القومية العربية العنصري الذي يسعى لطمس هويات الشعوب غير العربيية في سبيل وهم تأسيس الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج !!!
وبمناسبة الذكرى الأربعون لهذا المحطة النضالية الكبرى في تاريخ القضية الأمازييغية نعيد نشر هذا المقال:
عنوان المقال: في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية
بقلم: د. علي صدقي أزايكو (1981)
في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية.
قد يقول قائل متحمس، عند قراءة هذا العنوان، أما نزال نبحث عن مفهوم لثقافتنا الوطنية؟ ألم نستقر بعد على حال؟ وهذا الذي نحن فيه منذ زمان، الم يتجاوزه النقاش بعد؟ وقبل هذا وذلك ما لنا لا نهتم بما هو أهم؟ فبدل أن نتيه في فضاء مناقشات لا نهائية، لما لا ننكب على أمورنا الإقتصادية حتى نسير بمجتمعنا بسرعة وفعالية نحو التقدم والإزدهار والباقي آت لا محالة !
أما عن تجاوز المشكل الثقافي، فلا أضن أنه طرح بجدية [2] فكيف يمكن تجاوزه اذن؟ وسنعرف فيما بعد أسباب ذلك.
أما كون المشكل الثقافي أقل أهمية من المشكل الإقتصادي [3] فهذا ما لم يعد يقبله حتى الماديون المتطرفون، وأكبر دليل على ما أقول ما يهز العالم اليوم من أزمات واضطرابات لا يمكن أن نشرحها اعتمادا على الجانب المادي فحسب بل للمشاكل الثقافية فيها ضلع ودراع، وحتى الثورات التي قامت على أسس مادية، أثبتت التجربة أنها ثقافية بقدر ماهي ثورات ضد البؤس والاستغلال والتخلف... وإذا كان لنا، ان نفاضل بين هذين النوعية من الثورات، والتي فصلنا -جدلا- ما بينهما من ارتباط وثيق، فيمكننا أن نعتبر الثورة الثقافية نوعا أرقى وأعمق ارتباطا بالإنسان... لأنها لا تموت بموت الجوع الحاجة المادية ولأنها تبني العلاقات البشرية على جميع المستويات على أسس أرقى وأرق. إذا كانت الثورة الإقتصادية الحقيقية غير ممكنة اذا لم تواكبها أو تسبقها الثورة الثقافية، وإذا كنا نهمل الى حد كبير المشكل الثقافي في بلادنا فمحصولنا -منطقيا- هو لاشيء.
مفهوم الثقافة
هذا المشكل شغل الكثيرين، ولا يزال يحظى باهتمام كبير وليس غرضي الإحاطة بكل ما قيل ويقال في الموضوع وهنا أريد أن اقدم المفهوم الذي اخترته والذي أظن انه احسن مفهوم للثقافة حتى الآن.
(الثقافة كلمة تعني ما لاتقوم حياة اجتماعية دونه من أوان، ومواد الاستهلاك، وعقود اجتماعية، وأفكار، وفنون ومعتقدات، وأعراف) [4]
واللغة هي الكنز الذي تتبلور فيه المعارف الإنسانية ومنها ينبغي ان يكون الإنطلاق، انطلاق كل مجهود هدفه الوصول الى الحقيقة الانسانية.
والجدير بالذكر ان المقصود بكلمة لغة هو معناها المطلق بغض النظر عن كونها متطورة أم لا، مكتوبة أم شفوية [5] وذلك لأن التطور او الكتابة ليسا مقياسين أساسيين في هذا الصدد فكم من لغة بدائية احتضنت قيما انسانية عمقية، وحملت معارف ما كان التطور البشري ليكون لولا مساهمتها فيه، وكم من لغة يعتبرها الناس اليوم غير متطورة، وهي تعبر عن أعمق ما يشعر به متكلمها من بهجة وألم، وحب وكراهية... وإبإمكانها ان تبد اللغات المتطورة في ميادين كثيرة. [6]
"ومهما كانت الثقافة بسيطة، أو بدائية، أو معقدة جد متطورة فهي تكون مركبا واسعا ماديا من جهة، وانسانيا من جهة أخرى، وروحيا من جانب ثالث، والذي يمكن الإنسان منمواجهة المشاكل الملموسة والمحددة التي تطرح أمامه -هذه المشاكل ناتجة عن كون الجسم البشري عبد حاجيات عضوية مختلفة ولأنه يعيش في واسط هو أحسن حليف له لأنه يوفر له المواد الاولية لعمله اليدوي، وهو في نفس الوقت من أكبر أعدائه لأنه مليء بقوى تهدده" [7]
المشاكل ذات الطابع الثقافي في العالم
إذا كانت الدول الإشتراكية لا تعاني من المشاكل الثقافية بالمعنى المقصود هنا، فلأنها اوجدت لها الحلول المطلوبة منذ البداية وبدون مركب نقص أو احكام مسبقة.
أما الدول الرأسمالية التي نجحت فيها البورجوازية الوطنبة، ففرضت ثقافة معينة، وأهملت الباقي -كما هي الحال في فرنسا وانجلترا وبلجيكا والولايات المتحدة الامريكية فإنها رغم ارتفاع درجة تطورها وقوتها، وقدم تمركزها، لا تزال تعاني وبعنف من الرفض الذي تواجهها به الثقافات المكبوتة فيها والتي كان الجميع يظن أنها ميتة لا محالة -فمشاكل الباسك ةالبروتون وارلندا والفلامان والهند الحمر، كلها مشاكل معروفة على المستوى العالمي. [8]
وإذا كانت بلجيكا قد وجدت حلا مرنا وواقعيا للمشكل الثقافي فيها [[والتي لم يمكنها تقدمها الاقتصادي والاجتماعي على مفهوم لم يعد صالحا]] والتي لم يمكنها تقدمها الاقتصادي والاجتماعي من تجاوزه فأن فرنسا ما تزال تحتفظ وبقدرة كبير على مفهوم لم يعدصالحا للثقافة الوطنية والوحدة الوطنية، وهذا ما جلعها تواجه بالإهمال مطالب سكان بروطانيا واوكستانيا الثقافية على الخصوص، وضنت الحكومة ان سياسة اللامركزية في الادارة والاقتصاد كافية لحل المشاكل الثقافية في بلادها، إلا ان الواقع أظهر ان أعمق من ذلك، وأن حرية الممارية الثقافية بمعناها الكامل هي من أعز المطالب التي يرفض سكان الأقاليم المكبوتة ثقافيا التنازل عنها. [9]
كل هذه الأمثلة السريعة والخاصة بالدول المتقدمة، تعبر بوضوح كامل عن عجز التقدم الإقتصادي والإجتماعي عن حل المشكل الثقافي أو تجاوزه [10].
وإذا كان الامر كذلك بالنسبة للدول الصناعية، فأن الدول المتخلفة لا يمكنها بحال من الأحوال أن تنمو نموا طبيعيا متزنا بتوجيه كل مجهوداتها نحو التنمية الإقتصادية وحدها ناسية أو متناسية الجانب الثقافي.
أقول هذا وانا أعرف ان مجهودا كبيرا يبذل الآن في افريقيا السوداء لانقاد الثراث الافريقي الاصيل بما في ذلك اللغات الأصلية رغم تمكن اللغات الأجنبية وانتشارها في جميع مرافق الحياة. [11]
طبيعة المشكل الثقافي في الدول المتخلفة
اذا كانت الدول المتقدمة لم تتخلص بعد من المشاكل الثقافية التي نتجت عن انتشار البورجوازية الوطنية، واذا كانت انتصاراتها الكثيرة والمتنوعة في ميادين العلم والتقنية والاقتصاد، لم تمكنها من محو كل شعور بالأصالة الثقافية لدى المجموعات البشرية التي خضعتها سياسيا واستلبتها ثقافيا. أقول اذا كانت هذه الدول تعاني حتى اليوم من المشاكل الثقافية، فإن الدول النامية أكثر قابلية بأن تعاني منها وبحدة. ذلك لأنها لم تعرف الثورة البورجوازية قبل الاستعمار ولأن هذا الاخير حين عرفيته، غير العقلية السائدة فيها وفتح المجال أمام البورجوازيات الوطنية. غير أن الظروف التي تحركت فيها بورجوازيات أوروبا وأمريكا لم تتوفر لذى البورجوازيات الوطنية في الدول النامية.
ومما لا يساعدها كثيرا على أخذ مكان مكان الزعامة في ميدان الثقافة الوطنية اعتمادها مضطرة في الدرجة الأولى على اللغة الأجنبية ونمو الوعي التاريخي والثفافي لدى المثقفين الشبان كنتيجة حتمية للصراع الذي يقتسم العالم، والتناقض الموجود بين هذين الموقفين، اذا أظيف اضيف الى عدم وجود لغة قومية واحدة، وجبن الزعامة السياسية، وانعدام الفعالية الجماهيرية او ضآلتها.. كل ذلك أدى الى خلق ازمة خطيرة، يعقدها التخلف الإقتصادي والثأتيرات الخارجية بجميع أنواعها.
وبظهور فكرتي الاستعمار الثقافي والامبريالية الثقافية بعد ان تم الاتصال فعلا، بين أوربا والدول النامية في اطار الاستعمار الفعلي، أولا، ثم في اطار تبادل المصالح المختلفة بعد الاستقلال. أقول بظهور هاتين الفكرتين اتخذت ازمة الشعوب النامية بعدا آخر معقدا وحاسما في آن واحد. هذا البعد يتلخص في وجود صراع يتوتر أكثر فأكثر بين الرغبية القوية في تحقيق تحرير تام من مستعمر الأمس، ثقافيا ولغويا واقتصاديا، والاستفادة، في نفس الوقت، مما حققته من تقدم في جميع الميادين. قلت عنه بعدا معقدا لأن التكافئ بين الغاية والسيلة غير موجود. فالغالية في علو الطموح ونبله وشغوفه، والوسيلة لا تكاد ترتفع عن قيود الواقع وعجز التخلف، وقلت عنه بعدا حاسما لأن الموقف الذي سيتخذ يجب ان يكون حاسما والاختيار الوحيد يجب ان يكون في مستوى الطموح، طموح الشعوب النانمية التى التحرر والنهوض. وكل من التحرر والنهوض لا يمكن ان يتأتى الا في اطار مفهوم محدود واضح للثقافة الوطنية تراعي فيه جميع المعطيات الموضوعية المحلية لكل بلد. وتحليل لمفهوم الثقافة الأجنبية، ولطبيعة العلاقات التي ستربطنا بها.
لا أنكر ان هذا ليس بالأمر الهين، ولكنه في اعتقادي أحسن مشروع حقيقي في حل المشكل الثقافي في البلدان النامية، أما اختيار الحلول السهلة التي لا تربطها بالاوقع التاريخي والمعاش جذور فأقل ما ينتج عنها هو البلبلة وعدم الاستقرار، وقبر كل ابداع أصيل.
ان الاختلاف والتنوع في ميداني الثقافة واللغة اللذين يعاني منهما كثير من الدول المتخلفة واللذين يعتبرهما الكثيرون من المشاكل العويصة والخطيرة التي تواجهها، ستتحول بأعجوبة الى مصادر غنية متكاملة لثروة هذه البلدان الثقافية، اذا ما اعترف اعترف بهذه المصادر، واحترمت مقوماتها، ونميت كلها على قدم المساواة، أما اذا اهمل بعضها أو كلها، فستبقى المشاكل قائمة حتى نجد لها الحل الطبيعي بوسيلة أو بأخرى.
المشكل الثقافي في المغرب
المغرب دولة متخلفة، حصوله على استقلاله، وانتهاء عهد الاستعمار الفعلي تناقضات، لا أقول جديدة، بل كانت ضرورة النضال ضد المستعمر قد خنقتها، هذه التناقضات تحولت بسرعة من تناقضات لا تسترعي اهتماما كبيرا من الرأي العام الى مشاكل حادة ذات خطورة كبيرة. فخلقت أحزابا مختلفة أو جماعات غير منتظمة هذه المشاكل، رغم ارتباطها المتين. يمكن تصنيفها، تسهيلا لطرحها بوضوح، الى نوعين:
أولا: مشاكل اقتصادية ناتجة عن كونها ناتجة عن كوننا مجتمعا متخلفا يطمح الى التقدم والرقي في ظروف تاريخية تستوجب التنمية السريعة حتى يمكن التغلب على العوامل المعاكسة لكل تنمية والتي يحتضنها مجتمعنا.
ثانيا: مشاكل انسانية حضارية تمتد جذورها الى أعماق الماضي، وهذه في نظري أشد خطورة من النوع الأول، لأنها وثيقة الصلة بكل ما في الانسان من انسانية: بكرامته كإنسان، بأصالتها كشخصية، وبماضيه كبعد من أبعاده وبكبريائه كموجود معنوي يكره الذوبان والاستلاب.
هذا النوع من المشاكل كان دائما مطروحا منذ كان الانسان، ولكن بأشكال مختلفة: أناني، عائلي، قبلي، اقليمي، ديني، وطني وثقافي في آخر المطاف. وقد يطرح بشكل آخر في المستقبل.
وبما ان المشكل الثقافي، في نظري، هو المطروح بحدة كبيرة في أنحاء كثيرة من العالم الحاظر بما فيها بلادنا، وهو الذي يمكن أن يؤدي بنا، وفي أقرب الآجال، إلى عواقب وخيمة، أكثر مما لو كانت المشاكل الاقتصادية هي وحدها المطروحة، فإنني سأحاول أن أبدي فيه وجهة نظري بكل ما يستوجبه علي حبي لوطني من الصراحة والجرأة والموضوعية.
ان خطورة المشكل الثقافي في بلادنا ليست ناتجة عن مجرد وجوده كحقيقة مجتمعية ثابتة اجتماعيا، بل عن عدم طرحه بجرأة وموضوعية، وهذا شيء ان لم يكن طبيعيا فهو على الأقل منطقي لأن الذين مكنتهم الظروف من أولوية طرحه، لم تسمح لهم وضعيتهم من معالجته، بغير الطريقة التي عالجوه بها الى حد الآن. كما أن ثقافتهم لم ترفعهم الى حد رفع المستوى الأناني في التفكير الى المستويات الفكرية الموضوعية، وهذه الآخيرة هي وحدها الخليقة باكتشاف المفاهيم الحقيقية للشقافة المغربية. [12]
المشكل الثقافي مشكل حقيقي
اننا لا نطرح مشكلا مجردا أو خياليا لا علاقة له بالواقع المعاش لمجتمعنا، بل اننا لا نطرح مشكلا لا يكرحه غيرنا في بلادنا وغير بلادنا لأن المشكل الثقافي موجود ولايمكن لأي كان ان يرفعه أو يخفيه، وإنما الشيء الجديد في موقفنا هو أننا نطرحه بشكل لم يقتنع به غيرنا الى حد الآن. ةذلك لأسباب كثيرة ومعقدة، أهمها ما له من أبعاد تاريخية وسياسية وثقافية أي انه في جميع الحالات يدخل في التركيب البنيوي لمجتمعنا ويمكنه ان يؤثر فيه تأثيرا كبيرا ان لم نقل جذريا سواء أبقي على ماهو عليه أول حل حلا موضوعيا وعادلا، وهذا التغيير هو الذي يخيف الكثير من المسؤولين ويلتدئون الى الحلول السهلة بالعمل على تغليب جانب على جانب بدعوة الفعالية وربح الوقت وأحيانا بدعوة الوظيفية البسيطة التب لا تكاد تخفيب انحيازهم وذاتيتهم المندفعة.
قلنا تالمشؤولون، ونعني بذلك، أجهزة الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والثقافية، وكذا المثقفين بصفة عامة، لأن المشكل الثقافي في بلاادنا مطروح بالنسبة الى هؤلاء جميعا، ولكل موقفه وحججه، غير أنه يلاحظ أن اغلبيتهم يلتقون من حي الغاية، ويختلفون الى حد ما في الوسائل والطرق المؤدية الى الهدف المقصود. فالمشكل في نظرهم يتلخص في وجود لغتين تتنافسان السيطرة على البلاد:
"لغة رسمية تتوفر على إمكانات الدولة الضخمة... هذه اللغة هي العربية، ولغة اجنبية طارئة جاءت مع الاستعمار وفرضت على المغاربة فرضا، وبقيت بعد الاستقلال وسيلة ضرورية بالنسبة للبعض الآخر". وهذا هو ما يظهر على الأقل على الصعيد السياسي.
ومع ذلك يمكن ان نلاحظ بعض الفروق بين مواقف كل من الأطراف المعنية. فإذا كان الكل متفقا على هدف واحد هو التعريب فغن وسائلهم هي وحدها التي تختلف، فالدولة ترى مثلا أن تحقيق الهدف ينبغي أن يكون تدريجيا [13] بينما تريد الأحزاب السياسية والمثقفون المنتمون أن يكون بسرعة مع توفير كل ما يتطلب ذلك من وسائل وامكانات. أما المثقفون الغير المنتمين فإنهم يظهرون أو يعانون، على الأقل -بعض التردد- مع انهم لا يخفون ميلهم الى التعريب ايمانا أو تقية.
هذه المواقف كلها لا يمكن ايرادها دون وصفها بشيء من الغموض وكان وراء كل رأي من الأراء المذكورة نوايا تقتضي الضرورة اخفاءها، أو كان اصحابها يوقنون بوجود حقيقة أخرى يخفونها ويخافون ان يفاجئهم ظهورها وهم على هذه الحال.
وبالفعل، فإن مقارنة بين شعارات المدافعين عن التعريب من الشخصيات الحزبية والرسمية... وبين سلوكهم اليومي في بيوتهم ومع أصدقائهم، تبين بوضوح أنهم لا يؤمنون بشعاراتهم بل يستعملونها ليستهلكها الغافلون والمؤلفة قلوبهم من الشعب.
ةبما أن هذه اللعبة دامت أكثر من عشرين سنة، فإن البعض منا أدرك كل الادراك أن الحيلة ليست بليدة في حد ذاتها، لأن الهدف المقصود من تلك الشعارات ليس احلال العربية محل الفرنسية بقدر ماهو رغبة في محو لغة ثالثة وهذا يتحقق يوم بعد يوم، وأن اللغة الاجنبية أو اللغات الأجنبية تقتصر أكثر فأكثر على النخبة المحظوظة. [14]
ويبدو لي أن هذه الحقيقة المخفبة، قصدا، ثد ساهمت الى حد كبير في جعل المشكل الثقافي في بلادنا مشكلا سياسيا مزمنا.
ومعنى كل هذا ان المشكل لم يطرح على حقيقته لذلك يجب مشاركة منا للحيلولة دون استمرار الأزمة، أن نطرحه بشكل آخر.
اننا متفقون على أن الفرنسية لغة اجنبية تهدد كياننا كأمة ذات أصالة وحضارة مميزتين، اذا احتفظت بالمكانة التي تحتلها الآن في بلادنا ولكننا لا نؤمن مع ذلك على أن أحسن الوسائل للقضاء عليها هو التعريب السريع المرتجل، لأن هذا لا يمكن الا أن تكون له نتائج وخيمة على أجيالنا الصاعدة. أما الذين يرون هذا الحل فلا يستعملونه الا للاستهلاك السياسي المسموم.
أما الشيء الذي لا يجمعنا فيه اتفاق الرأي فهو أننا لا نعتبر بحال اللغة العربية وحدها اللغة الوطنية الوحيدة في وطننا، لأن في ذلك إجحافا كبيرا، وتضليلا سافرا، وبعدا عن الحقيقة الإجتماعية التي نعيشها. فبجانب العربية، توجد اللغة الأمازيغية التي ما تزال تستعملها نسبة كبيرة من مواطنينا وفي مختلف أنحاء المغرب، وهذه هي الحقيقة المرة التي يخفيها أو يتجاهلها المسؤولون في هذه البلاد. نعم ان لهذه الحقيقة خطورتها وماضيها. أما ماضيها فلا نعتبر المغاربة مسؤولون عنه، بل الاستعمار هو الذي حملها من خبثه ما جعلنا جميعا نتقزز كلما أثيرت أمامنا بشكل أو بآخر، وأما خطورتها فلا أظن أن تلافيها كامن في اهمالنا لها وتجاهلنا لوجودها. بل اننا بعلمنا هذا لا نزيدها الا تأزما.
الجذور التاريخة للمشكل
قد لا آتي بجديد في هذا الباب ولكن ضرورة وجهة نظرنا، تحتم علينا التذكير بالأصول التاريخية للمشكل، كلنا يعلم ان افريقيا الشمالية كانت دوما، نظرا لموقعها الجغرافي -هدفا للتدخلات الأجنبية التي غالبا ما تقتحم حدودها وتستقر داخلها بشكل من الأشكال ولمدة معينة، كان هذا يقع كلما ظهرة قوة جديدة في حوض البحر المتوسط، فكان التدخل الفينيقي ثم الروماني، فالعربي وأخيرا الفرنسي-الاسباني. كل هذه التدخلات تشترك جميعها في كونها أجنبية لغة وحضارة وفي كونها تخطت الينا الحدود بقوة السلاح، وفي كونها حاولت ان تفرض لغتها وحضارتها على الأمازيغيين، وفي كونها كانت تستغل البلاد والسكان استغلالا ماديا.
هذا اذا حاولنا أن ننظر نظرة موضوعية. أما وقد نجحت المحاولة العربية روحيا على الأقل، فإن الكلان عنها بهذه الطريقة، لابد وأن يثر الكثير منا وخاصة أولئك الذين نيتهزن كل الفرص لاقبار كل محاولة لتوضيح مشاكلنا. أما اذا كنا نجرؤ على ابداء مثل هذه الآراء فلأننا نميز أحسن ما يكون التمييز بين حقيقتنا الاجتماعية الحاضرة كمغاربة مسلمين وطبيعة الغزو العربي كحركة تاريخية جاءتنا من الخارج حاملة معها بالضرورة أنماط عيش مختلفة.
ونميز كذلك أحسن ما يكون التمييز بين ديننا الحنيف كرسالة الاهية سامية تطفح بمعان انسانية شاملة لا تعرف الحدود كيفما كان نوعها وبين العرب كبشر يتصفون بكل ما يتصف به الحنس البشري من مساوئ ومحاسن. فإذا كان الاسلام كدين منزها كل التنزيه فإن تنزيه كل الذين عملوا جنودا في نشره هنا وهناك شيء لا يقبله منطق. ان الكثير من الاخطاء يمكن ترتكب على حسن نية، الا ان كونها كذلك لا يمنع في شيء اعتبارها اخطاء. ورغبة أننا لسن الآن بصدد تعداد الأخطاء المرتكبة في حق سكان شمال افريقيا بعد الفتح الاسلامي مباشرة، ومنذ ذلك الوقت، من طرف الولاة الأمويين والعباسيين وغيرهم، فإنها بصفة عامة أدت الى انتفاضات قوية ضد الحكام العرب أنذاك والذين يعتبرون استمرارا لهم فيما بعد. هذه الانتفاضات كانت ولا شك مصحوبة بضعور لا أقول قومي ولكن بالشخصية المتمايزة بين أولئك التائرين الأمازيغيين المسلمين وأولئك العرب المسلمين. ورغم أن الأحداث التاريخية التي جاءت من بعد اثبتت ضعف ذلك الشعور اذا قورن بقورة مفاهيم الدين الاسلامي التي كانت وقتذاك تفهم في كونيتها فهما ظهر للآن خطؤه.
كان الاسلام والعربية مقترنين، أي أن الاسلام بدون عربية لا يتصور. هذا التفسير ما يزال ساءدا عندنا على الأقل -رغم ثبوت خطئه في أراضي اسلامية اخرى. معنى ذلك أن الاسلام دين يمحو بالضرورة لغات كل البلدان التي يصبح دين سكانها، وإذا لغة -أي لغة- لا بد أن نعني ثقافة وحضارة معينتين، لأن اللغة وثيقة الصلة بمن تنتمي اليهم، أي اننا اذا قلنا العربية، فإننا نقصد بالضرورة العرب وثقافة وحضارة العرب، وهاتان تختلفان أيضا بالضرورة عن ثقافة وحضارة المغاربة.
وإذا كان القرآن قد نزل بالعربية، فإن الله تعلى حين فعل لم يخلق عربية جديدة لا يفهمها العرب، بل كان ذلك باللغة العربية نفسها التي كانت من قبل، محملة بكل مقومات المجموعة البشرية التي كانت تتكلملها.
ورغم التغيير الكبير الذي أدخله الاسلام على حياة العرب فإن الاستمرار الحضاري، في بعض جوانبه على الأقل -شيء لا يمكن نفيه. واللغة عامل قومي في ذلك الاستمرار. فالادب الجاهلي الذي كان شفويا قبل الاسلام، وقواعد اللغة العربية التي لم تكن مضبوطة قبل الاسلام درست وضبطت بعد الاسلام وتقاليد وعادات العرب الجاهلين، اهتم بها المسملون ايما اهتمام في أعز عصور الدولة الإسلامية. ثم ألا يقضي تلاميذنا اليوم وقتا كبيرا في حفظ وفهم المعلقات وغيرها من الادب الجاهلمي...؟
فلو كان الاسلامي يعني بالكونية محو كل مقومات الشعوب التي تؤمن به، لطبق ذلك أولا وقبل كل شيء على العرب أنفسهم. ولنزل القرآن بلغة جديدة، يعلمها الله لنبيه، ويضطر كل المسلمين الى ترك لغاتهم، التي أراد الله لها أن تكون متنوعة ومختلفة، وتعلم اللغة الجديدة ! اللهم الا اذا كان اختار الله فعلا أمة العرب وجعلها فوق جميع الأمم الاخرى التي خلقها... !
ومعلوم أن المقياس الوحيد عند الله تعالى هو التقوى، وباختصار فإن الاسلام مبدأ القومية لا يكونان أي تناقض، غير أن التناقض يوجد بين قوميتين أو قوميات.
واذا كنا لا نناقش الجانب الديني، لأنه في نظرنا لا يطرح مشكلا اجتماعيا، لأننا، والله الحمد، مسلمون فإن المشكل الثقافي ما يزال مطروحا، لأن المغاربة لم يتعربوا جميعا.