المعنى الجديد لشعار الملك الأمازيغي ماسينيسا (إفريقيا للأفارقة)
الكاتب: الاستاد محمد بودهان
بتاريخ: 10 / 01 2022
مما يُنسب، وبإجماع الباحثين في التاريخ القديم لشمال إفريقيا، إلى الملك النوميدي الأمازيغي ماسينيسا Massinissa (238 ق. م. – 148 ق. م) قولته الشهيرة: "إفريقيا للأفارقة".
ومن المعلوم أن كلمة “إفريقيا” africa، قبل أن تكتسب معناها الحالي كاسم يُطلق على كل القارة الإفريقية، كانت في الأصل اسما يطلقه الرومان على منطقة شمال إفريقيا تحديدا، والتي كانت هي الجزء الوحيد المعروف من إفريقيا الحالية، مع استثناء مصر التي كانت لها تسميتها الخاصة المعروفة. وهي اسم مكوّن من كلمة “afri”، التي هي جمع لمفردة “afer”، ويعني في اللغة اللاتينية “الأفارقة”، أي المنتسبين إلى إفريقيا التي هي شمال إفريقيا الحالي. أما “ica” فهي لاحقة suffixe تدل في اللغة اللاتينية على الموطن والأصل الجغرافي. وهكذا تعني كلمة africa، في اللغة اللاتينية، موطن “afri” (www.grand-dictionnaire-latin.com).
كل مستعمل للأمازيغية وخبير بها يسهل عليه ملاحظة أن “afer” و”afri”، مصدري اسم “africa”، هما لفظان لا يمكن، بالنظر إلى مورفولوجيتهما وشكل نطقهما، أن يكونا إلا أمازيغيتين. ولهذا يؤكد معظم الباحثين، الذين تطرّقوا للموضوع، أن الأصل اللغوي للفظين هو، بلا شك، محلي، أي أمازيغي. وبناء على ذلك يعتقد بعض الدارسين أن “afri” قد تكون اسم قبيلة أمازيغية، في حين يرى آخرون أنها قد تعني ما لا تزال تعنيه اليوم، أي “المغارة” (T.Kotula, J. Peyras et W.Vycichl, “Afri” et “Africa”, “Encyclopédie Berbère”, tome II, Edisud, 1985, pages: 208 – 217.).
الغرض من هذا الاستطراد حول أصل تسمية “إفريقيا”، هو تبيان أنها كانت تعني جغرافيا بلاد الأمازيغ (تامازغا)، أي شمال إفريقيا، وتعني، هوياتيا، الأمازيغ سكان هذه المنطقة الجغرافية الذين هم “afri” حسب ما شرحناه. وبالتالي فإن ما كان يقصده “ماسينيسا” بقولته: “إفريقيا للأفارقة”، هو تحرير بلاد الأمازيغ من الأجانب المحتلين لهذه البلاد.
تمثال الملك الامازيغي ماسينيسا بالجزائر |
وإذا كان هذا القائد النوميدي قد تحالف مع روما، فذلك لأنه كان يعرف، استنادا إلى خبرته العسكرية، أن مواجهة قوتيين استعماريتين اثنتين في نفس الوقت، وهما قرطاج وروما، هو عمل انتحاري متهوّر. ولهذا استفاد من تحالفه مع روما لاستعمالها في طرد القرطاجيين كعدو مشترك، ليتفرّغ بعد ذلك، وفي الوقت المناسب، لمواجهة عدو واحد وهو روما. فشعار: “إفريقيا للأفارقة” كان إذن دعوة إلى تحرير البلاد الأمازيغية، أي شمال إفريقيا، من كل الأجانب المحتلين لها، وخصوصا القرطاجيين والرومان، لتعود إلى حكم أصحابها الأمازيغ، أي الأفارقة، بالمعنى الذي أوضحناه.
فهل لا يزال لهذا الشعار، اليوم، نفس المعنى والغاية حتى يمكن رفعه للاستنهاض للمقاومة والكفاح من أجل طرد المستعمر خارج بلاد الأمازيغ، أي خارج إفريقيا، أو شمال إفريقيا، كما نسميها اليوم؟ نعم إذا كان هناك مستعمر أجنبي لا زال يحتل بلاد الأمازيغ، أي شمال إفريقيا، أو إفريقيا كما كان يسميها الرومان. فهل يوجد، اليوم، مستعمر يحتل أرض المغرب وشمال إفريقيا حتى نرفع شعار: “إفريقيا للأفارقة” كدعوة للمقاومة وتحرير البلاد الأمازيغية من هذا الاحتلال الأجنبي؟
إذا كان هذا المحتل يتمثّل في حضور مادي، عسكري وبشري ظاهر لمن هم أجانب عن البلاد الأمازيغية، كما كان في عهد “ماسينيسا” بالنسبة للرومان والقرطاجيين، فإن الدعوة إلى مقاومته برفع شعار: “إفريقيا للأفارقة” هي عمل وطني، واجب ومطلوب. وهو ما كان عليه الأمر مع الرومان والقرطاجيين، والوندال والبزنطيين، والعرب في عهد الأمويين، ثم الفرنسيين والإسبان والإيطاليين في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما اليوم، بعد خروج آخر مستعمر من بلاد الأمازيغ، وهو فرنسا، فلم تعد هناك حاجة إلى الاستمرار في رفع شعار: “إفريقيا للأفارقة”، كمطلب بعودة بلاد الأمازيغ إلى أصحابها الأمازيغ.
لكن إذا لم يعدْ يوجد، اليوم، بالبلاد الأمازيغية حضور مادي للأجانب، كقوة عسكرية وبشرية استعمارية، فإن هناك حضورا من نوع آخر، غير مادي، للعنصر الأجنبي، ودون أن يتوفر على قوة عسكرية وبشرية ظاهرة كشاهد على الاحتلال واستعمار أرض الغير. يتمثّل هذا العنصر الأجنبي في وجود وعي زائف لدى جزء هام من المغاربة بأنهم ليسوا أمازيغيين، وإنما هم “برابرة”، أي أجانب هوياتيا عن الأمازيغيين الواعين بأنهم أمازيغيون، تبعا لهوية أرضهم الأمازيغية. هؤلاء المغاربة، الحاملين لهذا الوعي الزائف، يعتقدون إذن جازمين أن هويتهم ليست أمازيغية، بل هي عربية، أي أجنبية عن الهوية الأمازيغية الإفريقية، المحلية والحقيقية.
هؤلاء هم المحتلّون الجدد للمغرب وشمال إفريقيا. لكنهم لا يحتلون الأرض كما كان يفعل الرومان، أو العرب خلال الحكم الأموي، أو الفرنسيون في القرن العشرين، وإنما يحتلون الأذهان والوجدان، وهو أخطر من احتلال المَواطن والبلدان. فهؤلاء “المحتلون” هم في الحقيقة أمازيغيون، جنسا وانتماء وحتى عرقا، لكنهم وقعوا ضحية تعريب حوّلهم جنسيا (قوميا وهوياتيا) من أمازيغ حقيقيين إلى عرب مزوّرين. وليت الأمر وقف عند هذا التزوير للهوية والانتماء والجنس.
وإنما الأخطر أن هذا التزوير جعل هؤلاء الأمازيغيين المستلبين يعتقدون، كعرب مزوّرين، أنهم استولوا على هذه الأرض الأمازيغية بالغزو والاحتلال، كما فعل الأوربيون عندما استولوا على أمريكا بالغزو والاحتلال. وهذه إحدى المفارقات العجيبة لسياسة التعريب الهوياتي والتحويل الجنسي الجماعي للأمازيغ: أمازيغ أصليون يعتقدون أنهم من أصول غير أمازيغية. وحتى يعطوا تفسيرا معقولا لوجودهم بالأرض الأمازيغية رغم أصولهم الأجنبية كما يعترفون، يدّعون، حسب ما خضعوا له من غسل تعريبي إيديولوجي لأدمغتهم، أن أجدادهم العرب، الذين هم أمازيغيون أصلا، احتلوا هذه الأرض التي لا زال حفدتهم مستمرّين في احتلالها. هكذا يؤدّي التزوير إلى مزيد من التزوير والاختلاق وقلب الحقائق.
إذا كان شعار “ماسينيسا” دعوة إلى طرد الأجانب المحتلين لأرض تامازغا، فهل سنواصل، كأمازيغيين حقيقيين وليس كعرب مزوّرين، تطبيق هذا الشعار والدعوة إلى طرد هؤلاء العرب المزوّرين بمبرّر أنهم محتلون، كما يعترفون بذلك، باعتبار هذه الدعوة واجبا وطنيا، كما سبق أن قلت، وخصوصا أن مشروعية هذا الطرد لا تسقط بالتقادم؟ فالمسلمون احتلوا إسبانيا لأزيد من ثمانية قرون، لكن طول هذه المدة لم تمنع الإسبانيين من طردهم من أرضهم. وعلى ذكر هذا الطرد للمسلمين من إسبانيا، يجدر التذكير أن هؤلاء عادوا، بعد جلائهم، إلى أرض أجدادهم بشمال إفريقيا، وخصوصا المغرب، أي عادوا من حيث جاؤوا.
وإذا أمكن طرد العرب المزوّرين، باعتبارهم محتلين كما يعتقدون، فأين سيعودون بعد جلائهم من المغرب؟ المفترَض أنهم سيعودون إلى أرض أجدادهم العرب ببلدان الخليج، كما فعل مسلمو الأندلس الذين عادوا من حيث جاء أجدادهم. لكن إذا كان أمازيغيو شمال إفريقيا، وخصوصا المغرب، قد استقبلوا المرحّلين من الأندلس ورحّبوا بهم، فذلك لأنهم يعرفون أن هذه الأرض الأمازيغية هي أرض أجدادهم التي منها هاجروا إلى الأندلس منذ قرون. فهؤلاء المطرودون من الأندلس لم يكونوا إذن أجانب عادوا إلى أرض أجنبية، بل كانوا حفدة للأمازيغيين فعادوا إلى أرض أجدادهم الأمازيغيين.
أما حالة العرب المزوّرين، فأمرهم يختلف. فلا أحد من العرب الحقيقيين بالبلدان العربية الحقيقية يرغب في الترحيب بهم واستقبالهم لأنه لا يعترف بهم، باعتبارهم عربا مزوّرين ومنتحلين للصفة، كعرب حقيقيين هاجروا من بلادهم العربية منذ قرون ليعودوا اليوم إلى الأرض العربية لأجدادهم العرب، كما حدث مع المطرودين من الأندلس.
لقد شرحنا أن الاحتلال المرتبط بالعرب المزوّرين هو احتلال غير مادي، وبلا قوة عسكرية وبشرية استعمارية، لأنه عبارة عن وعي زائف لدى الأمازيغ المعرّبين والمتحوّلين الذين يعتقدون أنهم عرب وليسوا أمازيغيين. وبالتالي فإن مقاومة هذا الاحتلال، إعمالا لشعار “إفريقيا للأفارقة”، ينبغي أن تكون مناسِبة لنوع الاحتلال، أي أن تكون مقاومة غير مادية ترمي إلى محاربة الوعي الهوياتي الزائف الذي يحمله العرب المزوّرون، دفاعا، أولا، عن كرامتهم التي فقدوها يوم فقدوا هويتهم الأمازيغية عندما رضوا بالخضوع لنظام الكفيل الهوياتي والتبعية للعروبة رغم رفضها انتماءهم إليها؛ و دفاعا، ثانيا، عنهم كضحايا إيديولوجية تعريبية، عنصرية ومقيتة؛ ودفاعا، ثالثا، عن أمازيغيتهم التي يتنكّرون لها؛ ودفاعا، رابعا، عن الحقيقة، بالكشف عن حجم التزوير الذي كان ضحيته هؤلاء الأمازيغ المغرّر بهم، والذين تحوّلوا، نتيجة لهذا التغرير، إلى عرب مزوّرين، لا يعترف العرب الحقيقيون بعروبتهم المزوّرة.
فما يجب إذن جلاؤه كغازٍ محتل هو هذا الوعي التعريبي المزوِّر للهوية الأمازيغية لهؤلاء الأمازيغ المغرّر بهم. أما العودة بعد الجلاء إلى أرض الأجداد، فتعني العودة إلى الأمازيغية والوعي الهوياتي بالانتماء الأمازيغي لجميع المغاربة كانتماء جماعي يحدده انتماؤهم إلى نفس الأرض الأمازيغية، كيفما كانت أصولهم العرقية، الحقيقية أو المفترضة.
وإذا كان هذا الوعي قد بدا ينتشر تدريجيا لدى المغاربة المستعربين، المغرّر بهم، كما قلت، إلا أن تدخل الدولة، بنهج سياسية تعبّر عن عودتها هي نفسها إلى هذا الوعي الهوياتي السليم كدولة أمازيغية، دائما بالمفهوم الترابي الموْطني وليس بالمفهوم العرقي، سيسرّع من انتشار هذا الوعي لدى المغاربة وعودة المغرّر بهم إلى أمازيغيتهم، يفخرون بالانتماء إليها كهويتهم الجماعية التي لا بديل لهم عنها.
الخلاصة أن شعار: “إفريقيا للأفارقة”، إذا كان يعني في عهد “ماسينيسا”، صاحب هذا الشعار، طردَ المحتل الأجنبي خارج شمال إفريقيا الأمازيغية، فإنه يعني، اليوم، طردَ الوعي الهوياتي الزائف والكاذب، الذي يحتلّ الأذهان والوجدان، وطردَ صانعه الذي هو التعريب السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي.